
العروة الوثقى الزيدية
February 10, 2025 at 05:41 PM
الرؤية
حول رؤية الله تعالى في الآخرة، وبيان الحقِّ في ذلك
قد ثبت أن الله سبحانه وتعالى ليس بجسم، كما تقدم من أنه غني عن المكان، لأنه كان الله ولا مكان، فلو كان جسماً لاحتاج إلى مكان، وقد اتفق المسلمون على أنَّ الله تعالى هو خالق الأمكنة والسموات والأرض والعرش والكرسي والماء، والرؤية لا تصح إلَّا للجسم وتوابعه من الأعراض.
وقولهم يُرى بلا كيف لا يقبلها العقل، فلا يصح أن يُرى سبحانه يوم القيامة لا في جهة، فيراه الرائي لا أمامه ولا خلفه، ولا عن يمينه أو يساره، أو فوقه أو تحته، هذا من المحالات الفطرية التي فطر الله العقول عليها، وقد قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:١٠٤]، وقال تعالى: {لَنْ تَرَانِي}، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
فما ورد مخالفاً في الظاهر لهذه الأدلة القرآنية والعقلية، فيجب تفسيره بما يوافقها، فيرد المختلف فيه إلى المتفق عليه كما قدمنا.
ومما يؤيد أن المراد بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}، عموم أوقات الدنيا والآخرة، أنها وردت في ضمن مدائح سردها الله سبحانه وتعالى قبلها وبعدها، ولا يتمدح الله سبحانه وتعالى إلا بما يختص به جلاله وعظمته، ويخالف به مخلوقاته.
فلو أنه سبحانه وتعالى سيراه المؤمنون يوم القيامة، لما صح ذلك التمدح، ولم يكن مختصاً بتلك الصفة، بل قد يشاركه كثير من المخلوقات المحدثات المدفونة تحت أطباق الثرى، والمحجوبة في غيابات الفضاء، قال تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس:٣٦].
إذاً فلا يتم التمدح إلا إذا كان المعنى على أنه تعالى مفارق لجميع المخلوقات مفارقة ذاتية لا تمكن معها الرؤية، ولا يجوز الإدراك.
فلو قلنا مثلاً: إنه سبحانه وتعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، وقلنا تعقيباً على ذلك: ولكنه يجوز أن يرى، ويمكن أن تدركه الأبصار، فإنه أيضاً لا يصح التمدح وسرد ذلك بين صفات الإلهية والجلال. نعم، لما كان معنى قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}، نفي المشابهة بين الخالق والمخلوق كانت مدحاً، وكان معنى هذا التمدح كمعناه في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ٤}.
فلو لم يتضمن ذلك معنى هذا لم يكن مدحاً ولم يكن من صفات الله التي يختص بها.
شبهة وجوابها حول قوله تعالى:
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ٢٢ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ٢٣}
قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ٢٢ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ٢٣} [القيامة]، تَعَلَّقَ بعضُ طوائف المسلمين بهذه الآية وبمفهوم قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، [المطففين:١٥] وبنحو قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:١٠٥]، وبما رووه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «سترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر» .. الحديث.
ونقول في الجواب: تعارضت الأدلة القرآنية في الظاهر، وتناقضت مدلولاتها، ولا يصح ذلك في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، والنسخ لآية بآية أخرى لا يصح هنا، وكذا في سائر المسائل الإلهية، وكذلك لا يصح تخصيص الدليل العام المانع من إمكان الرؤية بعد فترة من الزمن.
امتناع النسخ والتخصيص
والدليل على هاتين المسألتين: النَّسخ والتخصيص:
أما الأولى- وهي النسخ لآية بآية أخرى فلأن صفات الله سبحانه وتعالى لا تتغير، فلا يصح أن يخبرنا ثانياً بأنه قد تغير عن حالته الأولى إلى حالة أخرى، لأن صفاته ذاتيه، فلا يصح أن يخبرنا أولاً بأنه لا يُرى، ثم بعد فترة من الزمن يخبرنا بأنه سوف يُرى، وكذلك سائر صفات الذات، نحو أن يخبرنا أولاً بأنه يعلم الغيب ثم بعد فترة على سبيل الفرض يخبرنا بأنه لا يعلم الغيب.
وأما الثانية- وهي التخصيص للدليل المانع من إمكان الرؤية بدليل آخر على جوازها بعد فترة من الزمن فالدليل على أنه لا يجوز في تلك المسائل التي تقدمت أنه نسخ في الحقيقة لبعض ما تناوله العام، فما دام أنه نَسْخٌ فقد أبطلنا النسخ، فبطل هذا.
وزيادة على ما قدمنا، فإن العام قبل مجيء التخصيص مُوْقِعٌ للمكلَّفين في اعتقاد الجهل والخطأ، فهو إذاً تلبيس وتغرير للمكلفين، وذلك لا يقع من الحكيم تعالى، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: ٨٧]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:١٢٢]
وقال في صفة القرآن: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢].
أما التخصيص المتصل فلا مانع، إذ لا تغرير ولا تلبيس.
إذا عرفت ذلك وأن النسخ والتخصيص ممتنع، والترجيح بين القطعيات لا يصح، وإنما هو بين الظنيات، لأنها التي تقبل القوة والضعف ويزيد الظن فيها وينقص، أما القطعيات فلا تقبل ذلك فتدبر.
نتيجة البحث
إذا عرفت ذلك كله، فاعلم أن هناك أصولاً اتفق عليها المسلمون منها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ٤}. ومن هنا اتفقوا على أن الله تعالى ليس له شبيه ولا مثيل، فهذا الأصل المتفق عليه يرد إليه كل ما اختلف فيه.
فلما رأينا طوائف المسلمين اختلفت في تفسير قوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ٢٣}.
فمنهم من قال: إن المعنى إلى رحمة ربها ناظرة.
ومنهم من قال: إن المعنى إلى ربها منتظرة.
فإن النظر يستعمل لغة بمعنى: الانتظار، كقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:٣٦]، وكقوله تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة:١٠٤]، وقوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:١٣].
ومنهم من قال: إن المعنى المراد نظر العين إلى الله تعالى جل جلاله.
ومع الاختلاف فإنّ ما اتفقوا عليه حاكم على ما اختلفوا فيه،وقد قال الله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، ومعنى أنه أم الكتاب، أنه أصل الكتاب الذي يرد إليه ما اشتبه معناه.
ونحن إذا نظرنا إلى تفاسير الطوائف المختلفة حول هذه الآية، رأينا التفسير الثالث يدل بالالتزام دلالة عقلية واضحة لا شك فيها، أن الله سبحانه وتعالى جسم، لأن الرؤية لا تكون إلا للأجسام وتوابعها من الأعراض.
وقولهم: إن الله سبحانه يُرى بلا كيف، بزيادة بلا كيف، هروب منهم إلى غير مهرب، فإن من لازم الرؤية الكيف، ومحال أن تَرى شيئاً وهو في غير جهة من الجهات، فيلزمهم بالضرورة إما التجسيم أو القول بالمحال، وكلاهما باطل، أما الأول فبالإجماع، وأما الثاني فبضرورة العقل.
أما التفسيران الأولان فلا يلزم منهما ما لزم من التفسير الثالث، بل أكثر ما نُقِدا به هو أنهما خلاف ظاهر الآية، ولا يجوز التفسير بغير ظاهر المعنى لأنه تحريف، فكان الجواب من أهل التفسيرين أن التفسير بغير الظاهر لا يجوز كما قلتم، ولكن التفسير بالظاهر هنا مناقض لتلك الأصول المتفق عليها، ولا يصح ولا يجوز تناقض القرآن، وضرب بعضه لبعض، وإبطال بعضه ببعض، فعدلنا إلى خلاف الظاهر للضرورة، مع أنا لم نخرج في تفسيرنا عن لغة القرآن، فقد فسرنا النظر بمعنى الانتظار وهو شائع في اللغة وفي القرآن كقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:٣٥]، {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}، {وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا}، بل إن كثيراً مما ورد في القرآن من النظر ومشتقاته بمعنى الانتظار، وقد روي من شعر حسان قولُهُ:
وجوهٌ يومَ بدرٍ ناظراتٌ ... إلى الرحمن يأتي بالخلاص
وحذف المضاف وإبقاء المضاف إليه غير قليل في اللغة وفي القرآن، وقد وضع له في علم النحو فصل مستقل كما في مغني اللبيب، وذكره علماء البيان وسموه إيجاز القصر، هذا في باب الإيجاز والإطناب والمساواة، وذكروه ثانياً في باب المجاز، وسموه مجاز الحذف، والقرينة على الحذف عقلية وهي استحالة الرؤية.
ويؤيد ذلك من سياق الآية: أنَّ الله ذكر في الآية التي تليها صفتين للأشقياء فقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ٢٤ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة]. فقابل بين باسرة وناضرة، وعلى ما قلنا قابل أيضاً بين {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ}، وبين انتظار الثواب، وعلى قول أهل التفسير الثالث لا يتم التقابل إلَّا بين الوصفين الأولين، والمناسب لجمال البلاغة هو الأول.
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، [المطففين:١٥] وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:١٠٥] ونحوهما من الآيات. فسبيلها سبيل ما تقدم، فيقدر عن ثواب ربهم يومئذ لمحجوبون، فمن كان يرجو لقاء ثواب ربه، والْمُلجِئ إلى تقدير ذلك استحالة رؤية الله.
وهكذا يفسر نحو قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:٢٢]، بأنَّ المعنى على تقدير: وجاء أمر ربك أو وعد ربك ووعيده أو نحوهما، وهكذا كلما جاء فيه ذكر مجيء الله أو نزوله كما جاء في بعض الأحاديث، فنقدر نزول أمره أو رحمته، وذلك للسلامة -كما قدمنا- من لزوم التشبيه والتجسيم المتفق على نفيهما عند جميع طوائف المسلمين، فما جاء في الكتاب أو السنة مما يوهم ذلك فإن الواجب تفسيره بما لا يتنافى مع ما أجمع عليه أهل الملة.
أما تفسير ما جاء من ذلك بما يلزم منه التجسيم والتشبيه، فذلك تخبط وجهالة، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
--➖➖➖➖➖➖--
#نظرات_في_ملامح_المذهب_الزيدي
#للسيد_العلامة_الحجة:
#محمد_بن_عبدالله_عوض_المؤيدي (أيده الله وحفظه )
#العروة_الوثقى_الزيدية

👍
❤️
🇱🇾
🇵🇰
🇾🇪
47