
الدكتورة سراح حليتيم
February 3, 2025 at 07:22 PM
⚖️ توثِيقُ المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ: إِجْرَاءٌ قَانُونِيٌّ ذُو تَأْصِيلٍ شَرْعِيٍّ
بِقَلْمِ: الدُّكْتُورَةِ سَراح حَلِيتِيم، كَاتِبَةٌ عُمُومِيَّةٌ مُعَتَمَدَةٌ.
📖 مستبط من أطروحة الدكتوراه: "أثر التطور التكنولوجي على شكلية عقد البيع العقاري"، للدكتورة سراح حليتيم، د.2018.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كَانَتِ المُعَامَلَاتُ السَّائِدَةُ قَدِيمًا تَتِمُّ بِإِجْرَاءِ الْمُقَايَضَةِ بَيْنَ السِّلَعِ، إِلَى أَنْ أَصْبَحَ الْبَيْعُ اَلْمَصْدَرَ الرَّئِيسِيَّ لِكَسْبِ اَلْمُلْكِيَّةِ وَوَسِيلَةً رَئِيسِيَّةً لِلرَّزْقِ. وَقَدْ كَانَ لِلشَّرِيعَةِ اَلْإِسْلَامِيَّةِ أَثَرٌ بَالِغٌ فِي تَنْظِيمِ اَلْمِلْكِيَّةِ اَلخَاصَّةِ وَوَضْعِ حَدٍّ لِلظُّلْمِ الَّذِي كَانَ قَائِمًا عَلَى رِبَا اَلْمُعَامَلَاتِ السَّائِدَةِ عِندَ اَلْعَرَبِ قَدِيمًا.
فَقَدْ جَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ لِلتَّرَاضِي مَكَانًا فِي إِنْشَاءِ اَلتَّصَرُّفَاتِ، وَفْقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِّنْكُمْ)، وَبِنَاءً عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ).
وَمَعَ ذَٰلِكَ، كَانَتِ الشَّرِيعَةُ اَلْإِسْلَامِيَّةُ تَتَعَامَلُ مَعَ اَلشَّكْلِيَةِ فِي اَلعُقُودِ بِشَكْلٍ مُمَيَّزٍ، مِمَّا جَعَلَ أَحْكَامَهَا صَالِحَةً لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، مَعَ مُرَاعَاةِ اَلنَّوَازِلِ اَلفِقْهِيَّةِ لِتُوَافِقَ عَصْرَ اَلْمَعْلُومَاتِيةِ.
تُعْتَبَرُ اَلشَّرِيعَةُ اَلْإِسْلَامِيَّةُ أَقْدَمَ اَلتَّشْرِيعَاتِ الَّتِي فَصَّلَتْ فِي اَلاَحْكَامِ اَلشَّكْلِيَّةِ لِلمُعَامَلَاتِ اَلمَالِيَّةِ، وِفْقًا لِمَا تَضَمَّنَتْهُ اَلآيَاتُ اَلقُرْآنِيَّةُ وَاَلأَحَادِيثُ اَلنَّبَوِيَّةُ، الَّتِي خَضَعَتْ لِاِجْتِهَادَاتِ اَلفُقَهَاءِ لِإِرْسَاءِ وَظِيفَةِ اَلشَّكْلِيَةِ فِي اَلشَّرِيعَةِ اَلْإِسْلَامِيَّةِ، مُخَالَفَةً لِلتَّشْرِيعَاتِ اَلوَضْعِيَّةِ.
فَالتَّعْبِيرُ عَنْ اَلاِرَادَةِ فِي اَلشَّرِيعَةِ اَلْإِسْلَامِيَّةِ قَدْ يَكُونُ بِاَلْأَقْوَالِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَٰلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْإِشَارَةِ أَوِ بِالاَفْعَالِ اَلدَّالَّةِ عَلَى اَلتَّعَاقُدِ، مِثْلَ اَلْلَّفْظِ، وَالإِشَارَةِ، وَالْكِتَابَةِ، وَهِيَ طُرُقٌ جَائِزَةٌ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ اَلاِرَادَةِ فِي إِنْشَاءِ اَلمُعَامَلَاتِ اَلْمَالِيَّةِ.
2. كِتَابَةُ اَلْعُقُودِ فِي اَلْقُرْآنِ اَلْكَرِيمِ:
حَثَّ اَلْقُرْآنُ اَلْكَرِيمُ عَلَى تُوْثِيقِ اَلبِيُوعِ، وَهُوَ مَا جَاءَ فِي أَطْوَلِ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ اَلبَقَرَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
(﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا ۖ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا ۗ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ ۚ وَإِن تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
الَّتِي تُنَظِّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ اَلدُّيُونِ الَّتِي يَكُونُ اَلمُقَابِلُ فِيهَا نَقْدًا، وَخَصَّتِ اَلمُعَامَلَاتِ اَلمُؤَجَّلَةَ بِضَرُورَةِ اَلْكِتَابَةِ إِمَّا وَجُوبًا أَوْ اِسْتِحْبَابًا، لِتَفَادِي النِّزَاعَاتِ الَّتِي قَدْ تَنشَأُ مُسْتَقْبَلًا.
وَبِنَاءٍ عَلَى مَا جَاءَ فِي اَلْقُرْآنِ اَلْكَرِيمِ، فَإِنَّ تَوْثِيقَ اَلبِيُوعِ جَاءَ لِحِفْظِ حُقُوقَ اَلطَّرَفَيْنِ فِي اَلبِيُوعِ اَلْمُؤَجَّلَةِ، مَعَ اَلتَّأْكِيدِ عَلَى ضَرُورَةِ اَلْكِتَابَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: "ذَكَرَ لَنَا أَبُو سُلَيْمَانَ اَلْمَرْعَشِيَّ، كَانَ رَجُلاً صَحِبَ كَعْبًا فَقَالَ ذَاتَ يَوْمٍ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَعْلَمُونَ مَظْلُومًا دَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ؟ فَقَالُوا: وَكَيْفَ ذَٰلِكَ؟ قَالَ: رَجُلٌ بَاعَ بَيْعًا إِلَى أَجَلٍ، فَلَمْ يُشْهِدْ وَلَمْ يَكْتُبْ، فَلَمَّا حَلَّ مَالُهُ جَحَدَهُ صَاحِبُهُ، فَدَعَا رَبَّهُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ"، فَقَدْ كَانَتْ وَاجِبَةٌ ثُمَّ نَسَخَهَا بِقَوْلِ ابْنُ جَرِيحٍ: "مَنْ أَدَانَ فَلْيَكْتُبْ، وَمَنْ ابْتَاعَ فَلْيُشْهِدْ" تفسير ابن كثير.
3. تَوْثِيقُ اَلبِيُوعِ فِي السُّنَّةِ اَلنَّبَوِيَّةِ
وَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ اَلنَّبَوِيَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى ضَرُورَةِ كِتَابَةِ اَلمُعَامَلَاتِ اَلْمَالِيَّةِ وَتُوْثِيقِهَا، حِفَاظًا عَلَى مَصَالِحِ اَلْأَفْرَادِ. فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِندَهُ مَكْتُوبَةٌ). رَوَاهُ البُخَارِيُّ، كِتَابِ الوَصَايَا.
وَفِي بَيَانِ اَلحَثِّ عَلَى ضَرُورَةِ اَلْإِشْهَادِ عَلَى اَلدُّيُونِ، مَا رَوَاهُ اَلْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ اَلْعَنْبَرِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبي محمد(ﷺ) قَالَ:
(ثَلاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ: رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سِيِّئَةُ اَلتَّخْلِيقِ فَلَمْ يُطَلِّقَهَا، وَرَجُلٌ دَفَعَ مَالَ يَتِيمٍ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ، وَرَجُلٌ أَقْرَضَ رَجُلًا مَالًا فَلَمْ يُشْهِدْ). رواه الحاكم.
وَفِي غِيَابِهِمْ، يَنُوبُ عَنْهُمْ حَنْظَلَةُ بْنُ اَلرَّبِيعِ، الَّذِي لُقِّبَ بِالْكَاتِبِ، الَّذِي يَقُومُ بِتَوْثِيقِ اَلعُقُودِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْرُكُ خَاتَمَهُ عِندَهُ، وَيَقُولُ لَهُ: "الْزِمْنِي وَاذْكُرْنِي بِكُلِّ شَيْءٍ لِثَالِثِهِ"، فَكَانَ لَا يَأْتِي عَلَىٰ مَالٍ وَلا حَاجَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا ذَكَّرَهُ بِهِ، فَلَا يَبِيتُ وَعِنْدَهُ مِنْهُ شَيْء.
فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ﷺ يَسْتَعِينُ بِخَاتَمِهِ مِنْ أَجْلِ خَتْمِ الْعُقُودِ الَّتِي كَانَ يَتَعَامَلُ فِيهَا، فَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهُمْ لَنْ يَقْرَؤُوا كِتَابَكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخْتُوماً، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ)، كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَتَبَ كِتَابًا وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ خَاتَمُهُ يَخْتَمُّ بِظُفْرِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يَخْتِمُ بِطِينِهِ، أَمَّا عَنْ صَفَةِ الْخَاتَمِ فَكَانَتْ تَحْمِلُ اسْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلاثِ سُطُورٍ، كُلُّ كَلِمَةٍ فِي سَطَرٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْمُ اللَّهِ فِي الْأَعْلَى، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ بِهَذَا الْإِسْمِ، نَهَى غَيْرَهُ عَنْ صُنْعِ مِثْلِهِ لِكَيْ لَا تَكُونَ هُنَاكَ مَفْسَدَةٌ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ فِي عُقُودِ مُعَامَلَاتِهِ الْخَاصَّةِ.