أهل العراق
أهل العراق
June 8, 2025 at 12:46 PM
العشائر العراقية: من الأعراف الأصيلة إلى معضلة النفوذ السياسي بعد 2003 إعداد/ عدنان صگر الخليفه مقدمة لطالما مثلت العشائر العراقية العمود الفقري للمجتمع، وكياناً اجتماعياً ذا نفوذ لا يستهان به، يتجاوز الزمان والمكان. قبل عام 2003، كانت العشيرة في العراق قوة ضاربة، ليس فقط بفضل أعداد أبنائها المنتشرين في مختلف المحافظات، بل أيضاً بفضل أعرافها وتقاليدها الأصيلة التي شكلت نظاماً اجتماعياً موازياً، يضمن الأمن، ويحل النزاعات، ويحافظ على السلم الأهلي في مناطق واسعة. هذه الأعراف، المتوارثة عبر الأجيال، كانت تُعتبر "سنة" ملزمة، يلتزم بها الجميع بقوة تفوق أحياناً قوة القانون الوضعي للدولة، نظراً لارتباطها العميق بالنسيج الاجتماعي والثقافي. العشائر كانت مرجعية اجتماعية واقتصادية، تُمثل صمام أمان في أوقات الشدة، وتُقدم الحماية والملجأ لأبنائها. هذه القوة الأصيلة كانت مبنية على الولاء للنسب، والاحترام للمشيخة التقليدية، والتمسك بالقيم العشائرية كالكرم والشجاعة والنخوة. لكن ما بعد عام 2003، شهد العراق تحولات جذرية، لم تقتصر على المشهد السياسي والأمني، بل امتدت لتُعيد تشكيل دور العشائر وطبيعة نفوذها، لتُصبح جزءاً لا يتجزأ من معضلة ضعف الدولة وسيادة القانون التي يعيشها العراق اليوم. بنية العشائر العراقية: وحدة النسب وتنوع المذاهب يتسم النسيج القبلي والعشائري في العراق بخصوصية فريدة وعميقة، حيث تتجاوز الروابط الدموية والنسبية الانقسامات المذهبية الظاهرية. فالإمارات والقبائل العربية الكبرى، مثل بني كعب، طيء، الزبيد، المنتفق، ربيعة، شمر، وعنزة، إضافة إلى غيرها الكثير من العشائر، تنقسم في عمومها بين القسم العربي الشيعي والقسم العربي السني. هذا يعني أن أبناء هذه القبائل هم في الأساس أبناء عمومة ينحدرون من أصل نسبي مشترك واحد (من أب واحد)، ثم تفرعوا إلى أبناء وكل مجموعة اتخذت مذهبها الخاص بها. هذه الحقيقة التاريخية والاجتماعية تؤكد على: أ. وحدة الأصل والنسب: بغض النظر عن الاختلاف المذهبي، تبقى الروابط الدموية والقرابة هي الأساس الذي يجمع أبناء القبيلة الواحدة. ب. التعايش والتداخل: يعيش أبناء القبيلة الواحدة بمختلف انتماءاتهم المذهبية في كثير من الأحيان ضمن مناطق جغرافية متجاورة، ويشاركون في نفس التقاليد والأعراف العشائرية. ج. دور العشيرة كجامع: في كثير من الأحيان، تعمل المشيخة والعشيرة كعامل موحد لأبنائها، وتسعى لحل النزاعات وتوفير الحماية لجميع أفرادها بغض النظر عن مذهبهم. د. التأثير على الهوية العراقية: هذا التداخل يعكس عمق الهوية العراقية التي تتجاوز الانقسامات الطائفية الضيقة، ويبرز الدور الذي يمكن أن تلعبه العشائر في تعزيز الوحدة الوطنية. تحولات ما بعد 2003: ضعف القانون وصعود النفوذ العشائري شهدت بنية القبائل والعشائر العراقية تحولات عميقة بعد الاحتلال في عام 2003، وتحديداً مع ضعف سيادة القانون وتراجع سلطة الدولة المركزية الفاعلة. هذا الفراغ الأمني والإداري دفع بالعديد من العشائر إلى: أ. الاعتماد على الذات في الحماية: أصبحت القبائل والعشائر هي الملاذ الأول والأخير لأبنائها لتوفير الأمن والحماية من الجريمة المنظمة، والإرهاب، أو النزاعات الداخلية، نظراً لغياب اليد الطولى للدولة. ب. تصاعد دور القانون العشائري: في ظل ضعف القانون الرسمي، استعادت الأعراف والتقاليد العشائرية مكانتها كمرجعية رئيسية في حل النزاعات وفض المنازعات وتحقيق "العدالة الاجتماعية" بين أفراد القبيلة. هذا التصاعد أدى في كثير من الحالات إلى عدم الالتزام الكافي بالقوانين الوضعية للدولة. ج. تغير قوة الأعراف وتطبيقها: لم يعد تطبيق الأعراف العشائرية موحداً أو مستقراً، بل أصبح مدى إلزاميته يحدده نفوذ وقوة القبيلة أو الإمارة في منطقة معينة. ففي المناطق التي هيمنت عليها قبائل أو إمارات قوية، تمكنت هذه الكيانات من فرض أعرافها بشكل كامل، بينما تضاءل دورها في مناطق أخرى. تسييس المشيخة: صعود المال والسلطة كمعيار للنفوذ لم يقتصر الأمر على ضعف القانون، بل دخل عامل جديد ومعقد في ديناميكية القبائل والعشائر بعد 2003، وهو تدخل الأحزاب السياسية والكتل المتنفذة وصعود المال كعامل حاسم في تحديد النفوذ. هذا التدخل اتخذ أشكالاً عدة: أ. خلق شيوخ جدد وتسييس المشيخة: قامت الأحزاب السياسية، سعيًا لبناء قواعد نفوذ لها، بـدعم شخصيات عشائرية معينة (وأحياناً غير تقليدية أو ذات نسب مشيخي ضعيف). يتم إظهار هؤلاء المدعومين على أنهم شيوخ ذوو نفوذ سياسي وحكومي من خلال توفير الدعم المالي، وتسهيل حصولهم على المناصب، أو منحهم القوة في مناطقهم. هذا أضعف المشيخة التقليدية القائمة على النسب والوجاهة الأصيلة. ب. صعود شخصيات المال والنفوذ غير التقليدي: الأهم من ذلك، هو صعود شخصيات داخل العشائر اكتسبت نفوذها وقوتها ليس بالضرورة من النسب أو المشيخة التقليدية، بل من خلال اكتسابها المال الوفير. هذا المال يأتي غالباً من العمل في السياسة (تقلد مناصب حكومية أو برلمانية)، أو من خلال المقاولات مع الأحزاب السياسية المتنفذة، أو الارتباط بشبكات اقتصادية مرتبطة بالسلطة. العواقب: انقسام المجتمع وضعف سيادة القانون لقد أدت هذه التحولات العميقة إلى عواقب وخيمة على البنية الداخلية للعشائر والمجتمع العراقي ككل: أ. انقسام العشائر والأفخاذ: لم يعد هناك مرجعية عشائرية موحدة. فمع ظهور "شيوخ" مدعومين سياسياً ومالياً، انقسمت العشيرة الواحدة (أو الأفخاذ داخل العشيرة الكبيرة) على نفسها. أصبح كل فصيل يتبع الشخصية التي تمكنت من النفوذ والمال، وادعت المشيخة، حتى لو افتقرت للشرعية العشائرية التقليدية. أدى هذا إلى صراعات داخلية وتآكل الهياكل التقليدية. ب. صراعات داخلية وتآكل الهياكل التقليدية: أدت هذه الظاهرة إلى تفاقم النزاعات الداخلية على المشيخة والنفوذ، وتآكلت الهياكل التقليدية للمشيخة. ج. انقسام المجتمع العراقي إلى فئات صغيرة: أدى هذا إلى تشرذم الولاءات المجتمعية وتفضيل الولاءات الضيقة (العشائرية/السياسية) على حساب الولاء للدولة أو القانون الموحد. أصبح المجتمع عبارة عن "جيوب نفوذ" صغيرة تتنافس فيما بينها على الموارد والسلطة. د. تزايد ظاهرة "الدكة العشائرية": أدى هذا الوضع إلى إظهار النفوذ بالقوة من قبل بعض المتحكمين في العشائر. هذا النفوذ الجديد، المدعوم سياسياً ومالياً، ساهم بشكل مباشر في كثرة "الدكة العشائرية" (النزاعات العشائرية المسلحة)، حيث باتت بعض العشائر أو أجنحة منها تعتمد على قوتها الذاتية لفرض إرادتها، بدلاً من اللجوء إلى القانون. ه. عدم الالتزام بالقانون الرسمي وتراجع الأعراف الأصيلة: تزايد تجاهل القوانين والأنظمة الحكومية، حيث أصبح الولاء للشيخ ذي النفوذ السياسي/المالي أقوى من الولاء للدولة. وحتى الأعراف العشائرية القديمة والراسخة التي كانت تُطبق بعدالة نسبية، بدأت تتراجع أو يتم تعديلها وتفسيرها بما يخدم مصالح الشيوخ الجدد الأكثر نفوذاً وقوة. العشيرة كرافعة سياسية: التغلغل في سدة الحكم إن مجموع هذه التحولات الخطيرة قد أفرز واقعاً مريراً حيث أصبح القانون الوضعي للدولة العراقية، الموجود نظرياً، غير قادر على السيطرة الفعالة على تلك العشائر أو أجنحتها المتنفذة. هذا العجز يعود بشكل أساسي إلى أن العشائر قد اكتسبت نفوذاً سياسياً وحكومياً كبيراً. والسبب الأعمق لذلك يكمن في اعتماد الأحزاب السياسية الكبيرة في العراق بشكل مباشر على الأصوات الانتخابية التي توفرها العشائر للوصول إلى السلطة والبقاء فيها. هذا الاعتماد المتبادل خلق علاقة قوية مكنت العشائر من: أ. العمل بمفردها وفوق القانون أحيانًا: لأنها متكئة على سلطة الأحزاب المتحكمة، مما يجعلها تتصرف بمنأى عن المساءلة القانونية الحقيقية في العديد من الحالات. ب. فرض أجنداتها الخاصة: مستفيدة من علاقاتها بالاحزاب أو من الأموال المكتسبة. ج. تقويض سلطة الدولة: بجعل الولاءات للعشيرة والسياسي المموَّل أقوى من الولاء للدولة ومؤسساتها. وفي العقدين الأخيرين (ما بعد الاحتلال في عام 2003)، أصبحت المعادلة أكثر وضوحاً: فقد باتت العشيرة ترى أنه يجب عليها أن توصل أفرادًا منها إلى سدة الحكم (المناصب السياسية والحكومية). هذا ليس مجرد طموح، بل أصبح ضرورة استراتيجية للعشيرة لتتمكن من: د. بسط نفوذها وقوتها على الآخرين: من خلال امتلاك سلطة رسمية تمكنها من التحكم بالموارد والقرارات. ه. التمايز به على العشائر المتبقية: الحصول على مزايا ومكاسب (وظائف، مشاريع، حماية قانونية، وغيرها) لا تستطيع العشائر الأخرى الوصول إليها، مما يعزز مكانتها الاجتماعية والاقتصادية. و. إطلاق السياسيين أسماء عشائرهم: كدليل على هذا التحول الجذري، أصبح من المألوف أن يُطلق السياسيون العراقيون على أنفسهم أسماء عشائرهم، أو أن يحرصوا على إبراز انتمائهم العشائري في خطاباتهم ومناسباتهم العامة. هذا التأكيد المتكرر على الهوية العشائرية من قبل الساسة أنفسهم يُعد دليلاً دامغاً على أن العشيرة لم تعد مجرد بنية اجتماعية، بل أصبحت لاعباً سياسياً حاسماً ورافعة أساسية للوصول إلى السلطة والحفاظ على النفوذ. امتداد الظاهرة إلى المشهد السياسي والعشائري الكردي من المهم التأكيد على أن هذه الظاهرة لا تقتصر على العشائر العربية في وسط وجنوب العراق، بل تمتد بشكل واضح إلى المشهد السياسي الكردي وعشائرهم أيضاً. فالأحزاب السياسية الكردية الرئيسية تعتمد هي الأخرى بشكل كبير على دعم العشائر الكردية، وتُسعى إلى إيصال شخصيات عشائرية ذات نفوذ إلى سدة الحكم لتأمين قواعدها الشعبية. أ. القوة العشائرية في السياسة الكردية: على غرار ما يحدث في بقية العراق، تعتمد العملية السياسية الكردية أيضاً على مبدأ القوة العشائرية كعامل أساسي في معادلة النفوذ. فالولاءات العشائرية تلعب دوراً حاسماً في توجيه الأصوات الانتخابية ودعم الأحزاب أو الشخصيات السياسية. ب. تسييس المشيخة الكردية: أصبحت بعض القيادات العشائرية الكردية تتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي هائل، ليس فقط بسبب مكانتها التقليدية، بل أيضاً بفضل مواقعها الحكومية أو علاقاتها بالأحزاب المهيمنة. هذا يمنحها القدرة على فرض إرادتها والتأثير على القرارات، وأحياناً العمل بمنأى عن القانون. الخاتمة لقد أدت هذه التحولات العميقة والمعقدة التي طرأت على دور العشائر العراقية بعد عام 2003 إلى تغيير جوهري في طبيعة العلاقة بين المجتمع والدولة. فالعشائر، التي كانت تمثل نظاماً اجتماعياً موازياً، أصبحت الآن كياناً ذا نفوذ سياسي وحكومي هائل، مما أدى إلى تشرذم الولاءات المجتمعية وتفضيل الولاءات الضيقة على حساب الولاء للدولة أو القانون الموحد. هذا الوضع أسهم في تزايد ظاهرة "الدكة العشائرية" وضعف الالتزام بالقانون الرسمي، وتراجع حتى الأعراف العشائرية الأصيلة نفسها. إن التحدي الأكبر الذي يواجه العراق اليوم هو كيفية استعادة هيبة القانون وسيطرة الدولة الحقيقية على جميع أراضيها ومؤسساتها، وكيفية بناء تماسك مجتمعي يقوم على أساس المواطنة المتساوية وسيادة القانون على الجميع، بدلاً من الارتكاز على الولاءات الفرعية والعشائرية المتداخلة مع النفوذ السياسي والمالي. هذا يتطلب جهوداً جبارة لإصلاح النظام السياسي، وتعزيز المؤسسات، ومعالجة جذور الفساد الذي سمح بتغلغل هذه الظاهرة.

Comments