حزب المؤتمر السوداني
حزب المؤتمر السوداني
June 3, 2025 at 05:41 PM
*حين يهرب المثقف من مواجهة الحقيقة، عبدالله علي ابراهيم نموذجًا* *الكباشي أحمد عبدالوهاب* *02 يونيو 2025م* لجأ الدكتور عبدالله علي إبراهيم في معرض حديثه عن الحرب المستعرة في السودان، الذي أدلى به في لقاء تلفزيوني عبر قناة الجزيرة بُث ليلة أمس، إلى استخدام التعبير اللاتيني الشهير "It takes two to tango". وهو تعبير يوحي بأن كل صراع لا يتم إلا بوجود طرفين. لكنه لم يكن موفقًا في اختيار هذا التعبير، لا من حيث الدقة ولا من حيث الصلة بالسياق الثقافي والسياسي السوداني، بل جاء استخدامه كمحاولة للتحذلق اللغوي والاختباء خلف استعارات دخيلة، لتفادي قول الحقيقة الصادمة لجمهوره: أن الحرب التي تدور رحاها اليوم هي صراع متكافئ الأطراف، وأنها في جوهرها اعتداء واضح وممنهج من طرفيها على المدنيين ومشروعهم الديمقراطي. هذا الاستخدام يعكس محاولته التذاكي، فالبيئة الفكرية والسياسية التي ينتمي إليها عبدالله ، أو بالأحرى، التي بات يصطف فيها مؤخرا، ترفض أصلًا الاعتراف بأن للحرب طرفين. ومن فرط انغماسها في الوهم والدعاية، لا تقبل حتى بمنطق البداهة الذي يقر بوجود طرفين في أي صراع. لذا، لم يكن غريبًا أن يختبئ المثقف المخضرم خلف استعارة لغوية مستوردة، بدلًا من تسمية الأشياء كما هي، ومواجهةً ما ارتكبه الطرف الذي يناصره من جرائم وتجاوزات. وإذا كان البعض يكتفي بالقول إن عبدالله "بلغ سوء الخاتمة"، فإن هذا الوصف لا يكفي لتجسيد حالة الانهيار الأخلاقي والفكري التي يعيشها الرجل. لقد أصبح بروف عبدالله، بكل تاريخه الأكاديمي والفكري، نسخة باهتة ومشوهة تجمع بين ضجيج "الظاهرة الصوتية" المتخفي خلف صفحة فيسبوك باسم "الانصرافي"، والانفلات التعبيري الذي ميّز خطابات "حماد الدندر، والقونات" اللائي توغلن في السياسة بسطحية مدوّية. لقد اختار الرجل أن يغرق في وحل مستنقع شديد القذارة، ويبرر حربًا لا نهاية منظورة لها، بين أبناء الوطن الواحد. وما من عاقل، بلغ من العلم ما بلغه، يمكن أن ينحدر لهذا المستوى من التبرير لجريمة وطنية كبرى باسم “حل أزمة” أو “تحقيق هدف”. فالحرب التي يناصرها الطرف الذي يسانده عبدالله لم تفعل سوى إنتاج المزيد من الحروب الصغيرة، والأزمات الفرعية، والانقسامات المجتمعية، وكلها تنسف ما يدّعي أنه يقاتل من أجله. لا التعبيرات المترجمة من لغات وثقافات مختلفة، ولا الحذلقة اللفظية، ولا المجاز اللغوي يمكن أن تنقذه من المستنقع الذي اختار الغوص فيه بكامل وعيه. إن الحرب لا تحتاج إلى تبرير من مثقف، بل إلى إدانة صريحة من كل من تبقى لديه حس أخلاقي ومسؤولية وطنية. وفي حلقة سابقة من البرنامج ذاته، بلغ به التجرد من المنطق والإنسانية مبلغًا خطيرًا حين قال في واحدة من أكثر تصريحاته تطرفًا، إن حماية المدنيين لا يمكن أن تكون ذريعة لوقف الحرب، زاعمًا أن المدنيين طرف في هذه الحرب لأنهم سعوا لتغيير الأنظمة في ثلاث مراحل تاريخية. هذا القول لا يعكس فقط اختزالًا مخلًا للحقيقة، بل يمثل أيضًا تزييفًا صريحًا للتاريخ، إذ أن نضال المدنيين ضد الاستبداد كان سلميًا بطبعه، ولم يتوسل العنف في أي من تلك المراحل، بل كان منبعًا للقيم السياسية والأخلاقية التي صنعت أعظم ثورات السودان، في اكتوبر 1964م، وأبريل 1985م، وأخيرا ثورة ديسمبر 2018م التي اقتلعت أعتى نظام استبدادي عرفه السودانيون في تاريخ دولتهم الحديث. لكن عبدالله آثر أن يقدم نصف الحقيقة ويخفي النصف الآخر، ليخدم غرضه في الترويج لاستمرار الحرب، حتى وإن كان ذلك على حساب ضميره الأكاديمي ومكانته كمثقف. بل إن زعمه بأن المدنيين طرف في هذه الحرب، قول لم يجرؤ على المجاهرة به حتى العسكريون أنفسهم. بيد أن البروفيسور عبدالله، وقد بلغ به الغلو منتهاه، لم يعد يجد حرجًا في الذهاب إلى أقصى درجات التطرف في مواقفه. والأدهى أن مقدم البرنامج واجهه، في أكثر من مناسبة، بسؤال مباشر: كيف يمكن لمثقف يعيش في أمن ورغد في الولايات المتحدة أن يدعو لاستمرار الحرب بينما يكتوي السودانيون بنيرانها؟ حرب لم تخلّف سوى الخراب، والنزوح، واللجوء، والمجاعات، والأوبئة، والفقر المدقع، وانهيار الدولة. لكن عبدالله، في صمم فكري وعمى أخلاقي، واصل دفاعه المحموم عن استمرار الاقتتال، وكأنه لا يسمع أنين ضحايا الحرب ولا يرى مآسيهم، بل يتحدث وكأنه جلاد من عصر المصارعين الرومان، لا أكاديمي معاصر يفترض أن ينحاز لقيم حقوق الإنسان وحرمة الدم. لقد بلغ الرجل منزلة جعلت من أنصاره الجدد حفنة من رموز النظام البائد، الذين أشعلوا هذه الحرب لإعادة إنتاج سلطتهم المستبدة التي لفظها السودانيون بثورة سلمية عظيمة، واجهها العسكر بالعنف المفرط لكنها بقيت صامدة حتى أطاحت بهم. هؤلاء المجرمون الذين حكموا بالحديد والنار، هم ذاتهم من يصفقون اليوم لعبدالله، بعد أن تخلى عن دوره التاريخي والأخلاقي كمثقف يفترض أنه ملتزم بقضايا شعبه. إن الدعوة لاستمرار هذه الحرب، التي أثبتت الأيام أنها لن تُحسم عسكريًا، هي في حد ذاتها موقف ضد الوطن وضد العقل. فكل المؤشرات الميدانية والسياسية والإنسانية تقول إن ما خُلِق من مآسٍ نتيجة الحرب يفوق أضعافًا مضاعفة المشكلة التي قيل إن الحرب جاءت لحلها. ولهذا، فإن الدعوة لمواصلة القتال، حتى وإن صدرت عن قامة أكاديمية وفكرية مثل عبدالله، لا يمكن إلا أن تُدرج في خانة التخلي عن المسؤولية الوطنية، والتواطؤ مع مشروع التدمير الشامل للدولة السودانية. لقد كان يُنتظر من عبدالله أن يكون صوت العقل، وأن ينادي بالسلام والمصالحة، لا أن يكون بوقًا لحرب لا أفق لها. كان يُرجى منه أن يسهم في رأب الصدع بين السودانيين، لا أن يعمق جراحهم. لكنه للأسف اختار أن يكون في صف الحرب، وبذلك أسقط عنه آخر ما تبقى من ثوب المثقف المسؤول.
Image from حزب المؤتمر السوداني: *حين يهرب المثقف من مواجهة الحقيقة، عبدالله علي ابراهيم نموذجًا*  *الك...
👍 😂 🙏 4

Comments