
"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ"
May 28, 2025 at 01:18 PM
رسالة من طبيب متطوع أردني متواجد في داخل غرْة
كأيِّ يومٍ عاديٍّ من أيامِ شعبِ غرْة،
استَقبَلتُ في طوارئِ مستشفى ناصر الطبيِّ في خان يونس قبل يومين إصابتان بليغتان؛ أحدُهما رجلٌ في الأربعين من عمره، والآخرُ طفلٌ في التاسعةِ من عمره.
بدأ الفريقُ الطبيُّ المجهَد بإجراءِ الإسعافاتِ الأوليّةِ اللازمةِ لهما.
وأثناءَ ذلك، سمعتُ من أحدِ الأشخاصِ أنَّ الرجلَ المصابَ طبيبٌ، وأنَّ الطفلَ الآخرَ هو ابنُه. فصرتُ أتأمَّلُ جيدًا ملامحَه التي غيَّرتها دماؤُه الطاهرةُ والشظايا والبارود المنثورُ على كاملِ جسده.
وفي السريرِ المقابلِ كان ابنُه المصابُ يئنُّ من الألم. وفجأةً، دخلت قاعةَ الطوارئ ثلاثُ نساءٍ بوجوهٍ شاحبةٍ يملؤها الهلع، يلتفتن يمينًا وشمالًا بين الأسِرَّة، حتى وصلنَ إلى الطبيبِ وابنه. هنا، بدأت صورةٌ متكررةٌ من صورِ القهرِ والظلمِ والحرمانِ تتجلى أمامي. ومن بينِ النساءِ ظهرت امرأةٌ مُنقَّبة، محتشمةً بعباءتِها السوداءِ. نظرت أوّلًا إلى الرجلِ المصابِ، ثم تقدَّمت إلى الطفلِ.
بدأ الكادرُ الطبيُّ من الطبيبات والممرضات بالتجمع حول هذه المرأة والبكاء وهم يحتضنونها، وأنا لا أعلمُ إلى الآن من تكونُ هذه المرأة. فسألتُ إحدى الممرضاتِ بصوتٍ خجولٍ:
- من هي هذه المرأة؟!
فقالت لي:
- يا دكتور، إنها الدكتورة آلاء النجّار، طبيبةٌ لدينا في مستشفى ناصر الطبي، أمُّ الشهدا'ءِ الثمانية الذين استشهـ..ـدوا قبل قليل بقصـ..ـف من إحدى طائرات العد'و ، وهذا زوجُها الدكتورُ حمدي النجّار، صاحبُ الخُلقِ، وهذا ابنُها آدم، المتبقِّي والناجي الوحيد من أبنائها .
واللهِ، في هذه اللحظة، لم أستطع النظرَ إلى وجهِها مرةً أخرى. اقتربتْ منّي الدكتورةُ آلاء وسألتني:
- كيف وضعُ آدم وحمدي، يا دكتور؟ طمئنِّي!
في تلك اللحظة، انعقد لساني. كيف لا؟! وقد رأيتُ امرأةً صابرةً محتسبةً، قويةَ الإيمانِ، تتحدثُ بكلِّ ثباتٍ ويقين، صوتُها واضحٌ لا يرتجُّ. فقلتُ لها، وصوتي يرتجفُ:
- إن شاء الله خير، توكَّلي على الله.
اقتربتْ مباشرةً من ابنِها آدم المغشيِّ عليه، وهمست في أذنه:
- “آدم حبيبي، أنا جنبَك، ما تخاف يا ماما. أمورُك كويسة”.
هنا، لم أتمالك نفسي وخرجتُ من القاعةِ من عظمةِ الموقف.
الدكتورةُ آلاء هي قصةٌ من آلافِ القصصِ التي تحدثُ كلَّ لحظةٍ في غرْة. شعبُ غرْة يضربون لنا يوميًا الكثيرَ من العِبرِ والمواقفِ التي، واللهِ، نستحي أحيانًا أن نسردَها، ولكن لزمَ الأمرُ، لعلَّنا نعتبر.
وفي الختام، شعبُ غرْة نعم أبطال، ولكنَّهم بشرٌ لهم طاقةٌ وصبرٌ محدود.
اللهم عجِّلْ الفرجَ لهم، وامنحْهم الصبرَ والأجرَ العظيم.
الدكتور / فيصل جمال بلال
أخصائي الجراحة العامة / الأردن
منظمة رحمة حول العالم .
غرْة /مستشفى ناصر الطبي / خان يونس .
💢💢💢💢💢💢💢💢💢💢💢💢💢
لا أعرف شخصًا فقَدَ تسعةً من أبنائه دفعةً واحدة ولا حتى على دفعات. لا أعرف مثل هذه التجربة لا لدى الناس الذين عرفتهم ولا حتى في قراءاتي في السّير والتواريخ والقصص العجائبية.
فقدت الخنساء أربعة فصارت مضرب مثلٍ وخُلع لقبها على النساء الثكالى مدى الدهر، وفقد أبو ذؤيب الهذلي خمسةً فخلّدهم وخلُد بهم في عينيته الشهيرة، ومن القصص النادرة قصةٌ عن شاعر اسمه الحارث بن حبيب الباهلي فقَدَ ثمانيةً من بنيه، ثم رأى رجلًا يبكي على شاةٍ أكلها الذئب، فمنحه ناقته وقال له: خذ هذه بشاتك، ولكن دع البكاء لأهله.
كنت أظن أن قصة الحارث الباهلي وأبنائه الثمانية تحمل أضخم رقمٍ ممكن في تجربةٍ لا يحتملها الإنسان في ولدٍ واحد، حتى كان أمس فرأيتُ بعيني طبيبةً مسكينةً استقبلت جثامين تسعة من أبنائها قتلهم الأنذال في لحظةٍ واحدة من الخسة والدناءة.
تسعة! أمضوا نحو سبع سنوات في رحمها لتضمهم أشلاءً وبقايا! وأمضوا ثمانية عشر عامًا على صدرها لتودعَهم الظلام! وبين هذا وذاك تعب طويل وليالٍ وسهر وأحلامٌ وكلام!
يا رب المساكين ثأرك!🌸