حضرموت... وطن يسكن القلب بقلم: د. جمال باصهي سافرتُ من بلادي الحبيبة إلى قلبي، حضرموت، رغم عدم رغبتي في السفر منها. ولكن الله لم يأذن لي بعدُ بالاستقرار في أحب البلاد إلى قلبي وعقلي، وهي حضرموت. والحمد لله على كل حال، فالخيرة دائمًا فيما اختاره الله. لقد شدني في حضرموت وأهلها الكثير من الجمال والبساطة والروح الطيبة. أعجبني اهتمامهم بجلساتهم الأسرية والاجتماعية، وكثرة النشاطات التي تجمعهم في حب ووئام. كما لفتني انتماؤهم الشديد للمساجد، وصبرهم الجميل على الظروف الحياتية الصعبة، وحرصهم على الفرح والانبساط رغم التحديات. فهم لا ينشغلون كثيرًا بأمور مادية تباعد بين الناس في دول أخرى، بل يبقون قريبين من ربهم وأحبابهم. أعجبتُ بإخلاص وتفاني المرأة الحضرمية في إسعاد زوجها، وتوفير كل سبل الراحة له، حتى وإن كانت كبيرة في السن؛ فإنها تتصرف وكأنها ما تزال في أيام زواجها الأولى. كما أعجبني التزامهم بالغذاء الطازج والتقليدي، بعيدًا عن المجمّدات والمستورد. وصناعتهم للفرح والسعادة مدهشة، إذ يتزاورون في رمضان والعيد، وينظمون الولائم فيما بينهم، وتُقام حفلات الأعراس في الشوارع ليشارك فيها الجميع. حضرموت نموذج للتآلف والتعارف. لديهم مناسبات اجتماعية غنية وفريدة، بعضها اندثر في أماكن أخرى، مثل: مناسبات الخطوبة، والولادة، وعودة رب البيت من الغربة، ومشاهرة رمضان، والعواد في الأعياد، والعزائم بعد الزواج، وحفلات التسمية للمولود، وغيرها الكثير. ويتميز أهل حضرموت بعادتهم في الاعتماد على المشي في شوارع مدنهم وقراهم، مما يضفي على حياتهم بساطة وصحة وروحًا اجتماعية جميلة. حضرموت ليست مجرد مكان... بل روح تنبض في القلب، وذاكرة مفعمة بالمحبة والوفاء. الحديث في مجالس رجال حضرموت خالي من أي تفاهات، فهم لا يتناولون إلا المواضيع الجادة، مثل السياسة والاقتصاد، سواء في بلدانهم أو في العالم أجمع. تلك المجالس تشعرك وكأنك في ورش عمل مليئة بالمواعظ والنصح، حيث تستمتع بالحديث عن الأحداث العالمية، تشخيص المشكلات، وتقديم الحلول المقترحة. هذه المجالس تثبت لك أن أهل حضرموت أصحاب حكمة وعقول ناضجة. لا يمكنك أن تمنعهم من الحديث عن السياسة، فهم يتنفسونها كتنفس الهواء. ما يثير إعجابي أيضًا هو عطفهم على المغتربين من أبنائهم، حيث ينظرون إليهم بعين الشفقة لمغادرتهم وطنهم، ويمنحونهم الأولوية في الحديث. لا عجب ان شخصيات عظيمة أصلها من حضرموت مثل ابن خلدون وأمرؤ القيس، بالإضافة إلى كبار تجار العرب وساستهم؛ فقد رأيت الحكمة والذكاء حتى في الأطفال. كما أن العديد من نساء حضرموت، بسبب الظروف الاقتصادية، يعملن في مجالات مثل التسويق، والتدريس، وفنون الطهي، والحناء، وزينة النساء. على الرغم من غياب المراكز الترفيهية، الحدائق، النوادي، والمقاهي الفاخرة في حضرموت، إلا أن الفرح والسعادة بين أهلها موجود و بكثرة. اللهم احفظ حضرموت وأهلها، بلدة طيبة لرب غفور.