
الـمِـيـزَان
May 27, 2025 at 08:19 PM
#الميزان
[ على أعتاب الخندق القديم ]
لم يكن في الغرفة شيء يذكّره بالخندق. لا تراب، ولا رائحة بارود، ولا زمهرير يلفّ أطراف الليل.
كان كل شيء أنيقًا: المكتب الواسع، الكرسي الجلدي، الأوراق المصقولة، والهاتف الذكي الذي لا يكفّ عن الإشعارات. لكنّ قلبه… قلبه كان هناك، في مكانٍ آخر.
جلس وحده بعد اجتماعٍ طويل عن "خطة المرحلة"، وتوزيع المهام، ومشروع التنسيق مع كذا وكذا. أغمض عينيه قليلًا… فإذا الليل يعود.
كان في عامه التاسع عشر، حين جلس على تلة ترابية، يحتضن بندقيته، ويعدّ نسمات الفجر، علا صوت التكبير من مئذنة قصفتها الطائرات مرارًا، لكنها ما زالت تنادي.
يتذكر جيدًا تلك الليلة… لم يكن فيها سوى الله.
الرفاق نيام، والقمر شاحب، والقلب يئن. كم بكى حينها! لم يكن يعرف لماذا يبكي، لكنه شعر أن تلك الدمعة كانت وضوءًا لروحه. رفع يديه، لا يعلم بمَ يدعو، لكنّه دعا، وسجد، وهمس:
"يا رب، إن كانت هذه الليلة آخر عهدي بالدنيا، فاجعلني من الصادقين."
كان يظن أن الخطر الأكبر هو الموت. لكنه الآن يعرف أن الخطر كان أن ينجو.
الناس يرونه قدوة، يشيرون إليه في المجالس: "فلان… من أوائل من رابطوا، وكان في كتيبة كذا، وقاد كذا…" لكنه وحده يعلم أنه خسر شيئًا في الطريق.
شيئًا لم يأخذه معه من الخندق.
هو لم يرتكب كبيرة؛ لا.
لكنه نسي كيف كان يشعر حين يخاف الله حقًا.
نسي كيف كان قلبه يضطرب لسماع آية.
نسي كيف كان يسهر يبكي، لا يعدّ الإعجابات، بل يعدّ الأيام الباقية للقاء ربّه.
فتح درج مكتبه. أخرج دفترًا صغيرًا، مغبرًا، عليه آثار الطين.
هذا ما بقي من الخندق.
فتحه… فإذا أول صفحة مكتوبة بخطٍ مضطرب:
"اللهم اجعل لي خبيئة لا يعلم بها أحد، تراني فيها حيث لا يراني الناس، وتعلم فيها صدقي، ولو كذّبني الخلق كلهم."
أغلق الدفتر ونظر إلى النافذة، كانت السماء ملبدة، كأنها تذكّره أن المطر لا يهطل دائمًا، وأنّ الغيم إن طال، قد يحجب النور إلى حين.
همس لنفسه:
"لقد نجوت من رصاص العدو… فهل أنجو من نفسي؟"
ثم قام.
توضأ.
وسجد كما سجد في تلك الليلة البعيدة... وبكى لأول مرة، منذ سنوات.
الخبيئة لم تمت… إنها فقط تنتظر من يوقظها.
---
يا حملة الراية بعد الزحف
يا من رابطتم حين فرّ الناس، وثبتم حين اضطربت الخطى، وبكيتم على التراب حين كانت الأرض تميد بأهلها…
لقد كنتم أوفياء في زمن الدم، فكونوا أتقى في زمن الدعة.
إنّ الجهاد لم يكن معركة في الجبل فحسب، بل امتحانًا في القلب، وها قد أتى الامتحان الأصعب… أن تُقيموا الدولة، ولا تهدمكم الدنيا.
لا تنسوا خنادقكم، لا تضعوا دفاتر دموعكم في الأدراج، لا تستبدلوا خشوع السجدة بصخب المنصات.
الآن، وكلّ الأنظار إليكم، اصنعوا خبيئتكم من جديد… لا في بنادقكم، بل في قراراتكم… لا في متاريس الطين، بل في مواضع السلطان.
فإنْ كانت لكم سابقة في الجهاد، فأقيموا لاحقة في العدل.
واذكروا دائمًا: أنّ الله لا ينظر إلى من حمل السلاح فقط، بل ينظر إلى من ثبت قلبه على العهد… بعد أن وضِعت البنادق جانبًا.
كونوا كما كنتم هناك… أنقياء، مخلصين، صادقين…
ولا تجعلوا النصر سُلَّمًا تُنسى تحته خبيئتكم.
https://whatsapp.com/channel/0029VajJRR70rGiR6ZTGFv1n