
المصدر أونلاين - أخبار اليمن
June 12, 2025 at 10:17 AM
ما بعد الإفراج: حين تصبح الحرّية قيدًا آخر
قبيل عيد الأضحي، شاركت في برنامج "المساء اليمني" على قناة بلقيس لمناقشة قضايا جرحى الجيش الوطني، وهو موضوع موجع، يتعدى الجرح الجسدي إلى الألم النفسي، ومن العسكريين الي المدنيين ضحايا هذه الحرب الذي خاضوا تجربة المعتقلات، وهو ملف لم تحظَ زاوية جرح ما بعد الإفراج بنقاش عميق ومستفيض، ما جعله ملفاً مهملاً بل منسياً.
ومن قبيل الصدف أن تواصل معي بعد انتهاء البرنامج، أحد المفرج عنهم، كان يتابع البرنامج، شاب قضى سنوات طويلة في الاعتقال. سألني بمرارة: "هل هناك أحد يهتم بنا بعد الإفراج؟ لماذا لا ينظر أحد لحاجياتنا ومعاناتنا؟"
رددت عليه وأنا أفترض أن الجهات الرسمية هي المسؤولة عن ترتيب حياتهم الجديدة، لكنه أجابني بأدب وعتب عميق:
"يا أستاذ، لا إيجارات، لا مصاريف للأولاد، لا علاج، كأننا مهمَلون، لا يلتفت إلينا أحد... ما زالت أوجاع السياط ترافقني، وأدوات السجن تملأ رأسي."
كان معتزًا بموقفه، معتزًا بانحيازه للدولة، لكنه يشعر بأن أحدًا لا يكترث اليوم لمعاناته. دار بيننا نقاش طويل، وما صدمني فيه أنه قال بصدق موجع:
"أحيانًا أتمنى لو بقيت في المعتقل... لقد تعودت على حياته، وعلى ضيق زنزانته."
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها عبارة كهذه. أن تخرج من زنزانة صغيرة إلى زنزانة أكبر اسمها "المجتمع المفتوح"، حيث لا تنتظرك برامج إعادة دمج، ولا دعم نفسي، ولا اهتمام قانوني، فهذا بحد ذاته مأساة.
للأسف الشديد، غياب الثقافة النفسية والقانونية والاجتماعية جعلنا نتعامل مع ملف المعتقلين والمفرج عنهم بزاوية واحدة: إما كأبطال، أو كأعباء، دون أي إدراك عميق لحجم التجريف النفسي الذي أصاب هؤلاء.
من الناحية النفسية، تُخلّف السجون التي تعتمد على أساليب قمعية كالتعذيب، الإخفاء القسري، الإهانة، والحرمان من الكرامة، آثارا عميقة في بنية نفس المحتجز، خاصة مع شعورة بالظلم، وفي المحصلة ضحية صراع سياسي فالتعذيب لا يؤدي فقط إلى ألم لحظي، بل يُحدث اضطرابات طويلة الأمد مثل الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، والقلق المزمن، إضافة إلى آلام جسدية ترافق الضحية بعد الإفراج، والإخفاء القسري يعمّق الشعور بالعزلة واليأس، ويفكك الإحساس بالذات، كما لا ننسي أن اغلب السجون في اليمن غير مؤهلة إنسانياً، لا شمس ولا غرف نظيفة ولا دورات مياه تليق بالإنسان، فتترك السجين في حالة إذلال داخلي دائم، فيما تُغذّي الإهانات اللفظية والشتائم الشعور بالدونية، وتُضعف قدرته على التفاعل الاجتماعي بعد الإفراج.
لهذا، فإن مرحلة ما بعد الإفراج تتطلب تدخلاً جاداً، يشمل دعماً نفسياً متخصصاً لمعالجة الصدمات، إلى جانب برامج إعادة تأهيل اجتماعي ومهني تساعد في ترميم العلاقة مع المجتمع. كما أن الرعاية الطبية تظل ضرورة، إضافة إلى الدعم القانوني لاستعادة الحقوق ومحاسبة الجناة. ولا يقل أهمية عن ذلك إعادة ربط المعتقل بأسرته، وتوفير إرشاد نفسي يساعدهم جميعًا على التكيف. إهمال هذه الخطوات يؤدي إلى الانهيار، الانعزال، العنف، أو حتى الانتحار. أما مجتمعيًا، فإن استمرار الإهمال يُضعف الثقة في المؤسسات، ويجعل من ضحايا السجون عبئًا بدل أن يكونوا قوة فاعلة.
لم يخطر ببال كثيرين، حتى من المدافعين عن حقوق المعتقلين، أن لحظة الإفراج قد تكون بداية معاناة جديدة. في الظاهر، نتصور أن الأبواب تُفتح، وأن السجين يخرج ليجد وطناً مفتوحاً، عائلة في استقباله، مجتمعاً يحتفي به كبطل، وربما حتى منصات تكرمه. لكن الحقيقة القاسية غالبًا عكس ذلك تماماً، قال لنا في منظمة "سام" أحد المحتجزين السابقين ونحن نستمع إلى قصته "كنت أظن أنني سأخرج لأُستقبل كبطل، لكنني انتظرت في نقاط التبادل ست ساعات، لا أحد يهتم بي... شعرت بغصّة في حلقي، كأنني لم أعد موجودًا."
بينما صدمني أكثر من معتقل سابق بقولة "تمنيت لو أنني عدتُ إلى المعتقل، هناك على الأقل أعرف روتيني، أعرف مع من أتكلم، أما هنا فلا شيء ولا أحد."
هنا تبدأ المأساة الصامتة. المعتقل الذي قضى سنوات في الزنازين المغلقة يخرج ليجد نفسه في "زنزانة مفتوحة" لا يفهم قوانينها. الناس منشغلون بأعبائهم، الأقارب مرهقون من الانتظار الطويل، والدولة بلا برامج احتواء أو رعاية، والمنظمات الحقوقية عاجزة عن مرافقة هذا الجرح العميق.
والحقيقة التي يغفل عنها كثيرون أن المعتقل الذي قضى سنوات خلف القضبان لا يقل تضحية عن المقاتل في الجبهة؛ كلاهما تحركه نفس الدوافع: الانحياز للدولة، الدفاع عن القانون، الإيمان بالكرامة اليمنية. الاعتقال والقتال ينبعان من نفس الجذر: مقاومة الظلم، الوقوف بوجه من يريد إذلال الوطن أو تفكيكه.
هؤلاء المعتقلون لا يحتاجون بعد الإفراج إلى شفقة أو عطف، بل إلى اعتراف بحقوقهم الكاملة؛ حقوق يجب أن تُفرض وتُنتزع، لا أن تُمنح كمنّة أو فضل. ولولا هؤلاء، لما استطاعت الأحزاب، ولا الدولة، ولا النخب السياسية أن تتربع اليوم على رأس الهرم. هؤلاء دفعوا الثمن بصمت، بأجسادهم وأرواحهم، من أجل بقاء الصوت الوطني حاضرًا.
ولهذا، فإن أقل ما يقدَّم لهم بعد الإفراج هو التزام واضح وصريح بمجموعة من المتطلبات الأساسية التي يجب أن تُصرف دون تردد أو تأخير: رواتب شهرية تعويضية، مخصصات إيجار أو سكن كريم، أولوية في برامج التدريب والتأهيل المهني، أولوية في العلاج الطبي والنفسي، واهتمام خاص بأسرهم وأبنائهم كجزء من رد الجميل بأفضل وجه ممكن.
ما نراه اليوم من تجاهل، ومن اضطرار المعتقلين المفرج عنهم إلى التسول لحقوقهم، هو عار وعيب كبير على الدولة والمجتمع. هؤلاء لا يطلبون صدقة، ولا فضلًا من أحد، بل يطالبون بحقهم المشروع الذي يجب على الجميع الدفاع عنه وانتزاعه.
والأصعب من ذلك كله، غياب الدولة. لا ملفات طبية تتابع، لا مراكز نفسية لمعالجة الصدمات، لا رواتب تعويضية، لا مساعدات مالية، لا حتى التفاتة لأسر المعتقلين الذين تحملوا سنوات من الألم والخوف والحرمان. كثير من المفرج عنهم يواجهون فسادًا مقنّعًا خلف المؤسسات، تلاعبا باسم قضاياهم، وانعدام أي شعور حقيقي بالمسؤولية. هؤلاء الذين كانوا ضحايا داخل السجون يُتركون أيضًا ليكونوا ضحايا خارجها، بلا أي جهة تضمن لهم أبسط حقوقهم.
من هنا، تأتي الحاجة إلى دعوة واضحة وصريحة: يجب تأسيس هيئة وطنية خاصة بشؤون المعتقلين، تكون مستقلة عن أجهزة الدولة التقليدية، ويُسند قيادتها إلى أشخاص مؤهلين، نزيهين، مشهود لهم بالكفاءة، ليسوا من متسلقي الفرص ولا من المتاجرين بآلام الناس. هذه الهيئة يجب أن تعمل على إعداد ملفات طبية ونفسية لكل معتقل مفرج عنه، تقديم برامج دعم نفسي وعلاج صدمات، صرف تعويضات مالية مباشرة وعادلة، دعم أسر المعتقلين الذين تحملوا أعباء لا تُحتمل، وتنظيم حملات مجتمعية لتغيير الصورة السلبية وإعادة دمج هؤلاء الأفراد بكرامة.
إن الحرية ليست مجرد فتح الباب؛ الحرية هي أن نمنح الخارج من القيد فرصة ليشعر بأنه ما زال إنسانًا، وما زال جديرًا بالحياة. وما لم تُفهم هذه الحقيقة، سنبقى ندور في دوامة تفرّخ المزيد من الألم، جيلًا بعد جيل.
هذه ليست قضية حقوقية فقط، بل قضية أخلاقية، حضارية، وإنسانية. ومن لا يفهم أن العدالة الحقيقية تبدأ بعد الإفراج، سيظل يكرر خطايا الماضي، دون أن يبني أي أمل للمستقبل.
مقال للكاتب| توفيق الحميدي
* (المصدر أونلاين)
للقراءة في الموقع: https://almasdaronline.com/articles/319361

😢
1