
فتاوى سبل السلام
May 28, 2025 at 09:41 AM
الأصل في عدم سقوط الجمعة بالعيد
الأصل في عدم سقوط الجمعة بالعيد أو إحداهما بالأخرى العموم الوارد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ﴾ [الجمعة: 9]؛ فلم يُستثنى من هذا الحكم لا يوم عيد ولا غيره من الأيام.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في "مختصر اختلاف العلماء" (1/ 347، ط. دار البشائر الإسلامية): [ولم يخصص يوم عيد من غيره] اهـ.
أصل الخلاف في حكم صلاة الجمعة إذا اجتمعت مع العيد
أصل الخلاف في حكم صلاة الجمعة إذا اجتمعت مع العيد؛ الاختلاف في تصحيح الأحاديث والآثار الواردة في ذلك من جهة، وفيما تدل عليه من جهة أخرى.
فمن ذلك: ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم رضي الله عنهم: أشهدتَ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: كيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخَّص في الجمعة فقال: «من شاء أن يصلي فليصلِّ».
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنَّا مجمِّعون» رواه أبو داود وابن ماجه في "السنن" والحاكم في "المستدرك".
فمن العلماء مَن ذهب إلى أن أداء صلاة العيد لا يُرخِّص في سقوط الجمعة؛ مستدلين بأن دليل وجوب الجمعة عام لكل أيامها، وأن كلًّا منهما شعيرة قائمة بنفسها لا تجزئ عن الأخرى، وأن ما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار لا يقوى على تخصيصها لما في أسانيدها من مقال؛ وهذا مذهب الجمهور كما سبق.
كما أن هذه الآثار محمولة على وجهين كما ورد في كلام الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 271، ط. أوقاف المغرب): [أمَّا الآثار المرفوعة في ذلك فليس فيها بيان سقوط الجمعة والظهر ولكن فيها الرخصة في التخلف عن شهود الجمعة، وهذا محمول عند أهل العلم على وجهين:
أحدهما: أن تسقط الجمعة عن أهل المصر وغيرهم ويصلون ظهرًا، والآخر: أن الرخصة إنما وردت في ذلك لأهل البادية ومَن لا تجب عليه الجمعة] اهـ.
هذا، مع الأخذ في الاعتبار أن مجيء الناس من الأماكن البعيدة لحضور الجمع والأعياد في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان لحاجة الاجتماع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذلك "لأن أصحابه كانوا يرون سماع خطبته، وشهود جمعته، وإن بعدت منازلهم، لأنه المبلغ عن الله تعالى، وشارع الأحكام، ولما دعت الحاجة إلى ذلك في الأمصار صليت في أماكن، ولم ينكر، فصار إجماعًا؛ كما قال الإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 248).
كما أنَّ صلاة الجمعة كانت تُصلى في مسجدٍ واحدٍ دون تعدد؛ بحيث يجتمع فيها أهل البلد وما قرب منها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده:
قال الإمام أبو بكر بن المنذر في "الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف" (4/ 116، ط. دار طيبة): [الناس لم يختلفوا أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعطل سائر المساجد، وفي تعطيلِ الناسِ الصلاةَ في مساجدهم يومَ الجمعة لصلاة الجمعة واجتماعِهم في مسجدٍ واحدٍ: أبينُ البيانِ بأن الجمعةَ خلافُ سائر الصلوات، وأن الجمعة لا تُصلَّى إلَّا في مكانٍ واحد] اهـ.
وقال الإمام التقي السبكي الشافعي في "فتاويه" (1/ 175، ط. دار المعارف): [ومن محاسن الإسلام: اجتماعُ المؤمنين كل طائفة في مسجدهم في الصلوات الخمس، ثم اجتماع جميع أهل البلد في الجمعة، ثم اجتماع أهل البلد وما قرب منها من العوالي في العيدين، لتحصل الألفة بينهم ولا يحصل تقاطع ولا تفرق] اهـ.
وهو مستبعد الآن في ظل التواكب العمراني وتوافر المساجد الجامعة في جل المناطق السكنية (القريبة والنائية)؛ ومن ثَمَّ يصح أن يحمل كلام ما ورد في كلام الفقهاء من التفرقة بين أهل القرى والمدن والأمصار على حصول المشقة وعدمها في حضور المصلين من الأماكن البعيدة ممن لا تُقام في أماكنهم الجمعة.
وهذا يظهر من نص الأحاديث وتعليل الفقهاء أنَّ الرخصة في سقوط حضور الجمعة مع صلاتها ظهرًا واردٌ في حقِّ من أتى لصلاة العيد من خارج المدينة المنورة حينئذٍ؛ ممَّن لا تجب عليهم الجمعة ابتداءً؛ كونهم من سكان المناطق والبوادي خارج المدن والعمران، فهؤلاء إن انتظروا حتى يصلوا الجمعة كان في ذلك مشقة عليهم، وكذلك لو رجعوا إلى أهلهم ثم جاؤوا لصلاة الجمعة أيضًا.
وعليه: فالأمر في ذلك واسع ما دامت المسألة خلافية ولا يعترض بمذهب على مذهب، فتقام الجمعة في المساجد؛ عملًا بالأصل والأحوط، ومن كان يشق عليه حضور الجمعة أو أراد الأخذ بالرخصة فيها تقليدًا لقول مَن أسقط وجوبها بأداء صلاة العيد فله ذلك، بشرط أن يصلي الظهر عوضًا عنها من غير لوم على من حضر الجمعة أو إنكار على من أقامها في المساجد، وكذلك من دون إثارةِ فتنةٍ في أمرٍ وسع الخلافُ فيه سلفنا.
ومُدرك ذلك مبنيٌ على القواعد الثلاثة المشتهرة لإدارة الخلاف الفقهي المعتبر التي قرَّرها العلماء، من أنه: "لا إنكار في مسائل الخلاف"؛ كما في "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية)، وأن: "من ابتلي بشيء من المختلف فيه فليُقلد من أجاز"؛ كما في "حاشية الشرواني على تحفة المحتاج" في فروع الشافعية (1/ 119، ط. المكتبة التجارية)، وأن: "الخروج من الخلاف مستحب على كل حال"؛ كما في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" للإمام العز بن عبد السلام (1/ 253، ط. مكتبة الكليات الأزهرية).
كما لم يعهد من الشارع أنه جعل الصلوات المكتوبات أربعًا في أي حالة من الحالات حتى في حالة المرض الشديد، بل وحتى في الالتحام في القتال، بل هي خمس على كل حال كما هو منصوص قطعيات الشرع الشريف في مثل: قوله صلى الله عليه وآله وسلم للأعرابي في تعداد فرائض الإسلام: «خَمْسُ صَلَواتٍ فِي اليَوْمِ والليلة» متفق عليه من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ عَزّ وَجَلّ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «خَمسُ صَلَوات كَتَبَهُنَّ الله عَلَى العِبَاد» رواه الإمام مالك في "الموطأ"، وأبو داود والنسائي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.. إلى غير ذلك من النصوص المتكاثرة.
وإذا كانت الصلاة المفروضة لا تسقط بأداء صلاة مفروضة مثلها فكيف تسقط بأداء صلاة العيد التي هي فرض كفاية على المجموع وسنة على مستوى الفرد!
قال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 270) تعليقًا على قول مَن أسقط صلاة الجمعة بالعيد مطلقًا: [الأصول كلها تشهد بفساد هذا القول؛ لأن الفرضين إذا اجتمعا في فرض واحد لم يسقط أحدهما بالآخر، فكيف أن يُسْقَط فرضٌ لسُّنَّة حضرت في يومه! هذا ما لا يشك في فساده ذو فهم، وإن كان صلى مع صلاة الفطر ركعتين للجمعة فقد صلى الجمعة في غير وقتها عند أكثر الناس إلَّا أن هذا موضع قد اختلف فيه السلف؛ فذهب قوم إلى أن وقت الجمعة صدر النهار وأنها صلاة عيد.. وذهب الجمهور إلى أنَّ وقت الجمعة وقت الظهر، وعلى هذا فقهاء الأمصار] اهـ.
وقال العلامة ابن رشد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (1/ 230، ط. دار الحديث): [إسقاط فرض الظهر والجمعة التي هي بدله لمكان صلاة العيد فخارج عن الأصول جدًّا] اهـ.
وقد أوجب الشرع الشريف هذه الصلوات الخمس لذاتها على اختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال -إلا فيما استثناه من حيض المرأة ونفاسها- حتى إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أخبر عن مدة لبث الدَّجال في الأرض فقال: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ»، قال له الصحابة: "يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟" قال: «لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ» رواه مسلم، وهذا كالنص على عدم سقوط أي صلاة مكتوبة على أي حال وفي أي زمان.