
العدل والإنصاف
June 8, 2025 at 01:50 PM
*لماذا لا تكفي دراسة أصول الفقه وحدها لتكوين قانوني مؤهل؟*
Pourquoi l’étude des fondements du fiqh ne suffit-elle pas à former un juriste accompli ?
في هذا المقال، أزعم أن دارس علم أصول الفقه لا يُعَدّ مؤهلاً بالضرورة لممارسة القانون بمعناه الحديث، وأن عليه، إن أراد تقوية نفسه وتوسيع أفقه القانوني، أن يُقبل على دراسة الفلسفة إلى جانب القانون. فالعقل القانوني اليوم لا يُبنى على الحفظ أو على التعامل مع النصوص المجردة فحسب، بل على التحليل، والنقد، وفهم السياقات، وهي أمور لا يُتقنها إلا من أطلّ على الفلسفة إطلالةً واثقة
في عالم القانون، حيث تختلط المفاهيم وتتنازع المرجعيات، يواجه القانوني سؤالاً وجودياً عميقاً: هل الأولى له أن يتجه إلى الفلسفة، أم إلى أصول الفقه؟ ليس هذا السؤال مجرد جدل أكاديمي، بل يتعلق بجوهر التكوين المعرفي، وبالأساس الذي سيُبنى عليه تفكيره القانوني ومقاربته لمفاهيم مثل العدالة، والشرعية، والسلطة
أصول الفقه، لا شك، تُقدّم منهجاً منضبطاً لفهم النصوص. فهي تُدرِّب العقل على استيعاب قواعد الاستنباط، وتوازن بين الظاهر والمقاصد، وتمنح أدوات دقيقة للتأويل. بل يمكن القول إنها تؤسس "نحو النصوص" في البيئة الإسلامية، وتُعدُّ مدرسة ممتازة في الانضباط المنهجي. لكنها، رغم ذلك، لا تكفي لوحدها لتأهيل قانوني قادر على فهم الواقع الحديث أو مخاطبة العقل القانوني العالمي
ذلك أن أصول الفقه، بحكم نشأتها وتاريخها، مرتبطة بسياق تشريعي خاص ومغلق نسبياً. فهي تُعلِّمك كيف تشتغل داخل منظومة شرعية، لكنها لا تُخرجك إلى التساؤل حول طبيعة تلك المنظومة، أو علاقتها بالعدالة الاجتماعية، أو إمكانية نقد السلطة التي تستند إليها. ومن هنا تأتي ضرورة الفلسفة
الفلسفة تُعلِّمك التفكير النقدي، وتُدرّبك على التفكيك قبل التركيب. من خلالها، يتعلم القانوني أن لا يقف عند ظاهر النص، بل يغوص في بنيته وغايته.
يسأل: من كتب هذا النص؟ ولماذا؟ وما الذي يُفترض أن يُنتِجه؟ يتعلم من الفلسفة أن العدالة ليست في النص بالضرورة، بل في الفكرة التي وراء النص، وفي الإنسان الذي سيتأثر بتطبيقه. هي التي تُخرِج القانوني من ضيق الجدل الأصولي إلى أفق النقاش الإنساني والسياسي والفلسفي
صحيح أن الفلسفة ليست بلا مخاطرة؛ إذ قد تُدخِل صاحبها في شكٍ دائم، أو تُغريه بالإفراط في التجريد. لكنها، مع ذلك، ضرورة لا غنى عنها. فالقانون لا يُمارَس في فراغٍ فقهي، بل في واقعٍ متحوّل، تُصنع فيه القوانين كما تُنقَد، وتُمارس فيه السلطة كما تُسائل.
والفلسفة تمنح القانوني أدوات التعامل مع هذا الواقع بعينٍ ناقدة وروحٍ مفكرة
لهذا لا يكفي أن يكون القانوني حافظًا لقواعد أصول الفقه، بل ينبغي أن يكون مفكرًا، قادراً على مساءلة النص قبل أن يُطبّقه، وعلى فهم الإنسان قبل أن يحكم عليه. فدارس أصول الفقه وحده، من دون فلسفة، قد يكون أشبه بمن يتقن أدوات البناء، لكنه يجهل إلى أي غاية يُشيّد هذا البناء.
إن القانوني الذي يجمع بين أصول الفقه والفلسفة هو من يجمع بين الدقة والانفتاح، بين الانضباط والتساؤل. يقرأ الغزالي كما يقرأ روسو، ويُنقّب في الشاطبي كما في كانط. لا يُقيده النص، لكنه لا يُهمل وزنه. يُدرك أن العدالة ليست فكرة معلّقة، بل مشروع إنساني يحتاج إلى عقل متسائل لا عقل متلقي
في النهاية، القانون ليس غاية، ولا الفقه ولا الفلسفة كذلك. كلها أدوات في يد العقل الباحث عن العدل. ومن أراد أن يكون قانونيًا بحق، فعليه أن يصنع من نفسه عقلًا قانونيًا حرًّا، متسائلًا، ناقدًا، متجددًا، لا مكتفيًا بما وضعه السابقون، ولا تابعًا لما يُملى عليه دون فحص.
❤️
👍
6