خَيــرُ أُمَّــــة
خَيــرُ أُمَّــــة
June 5, 2025 at 06:26 PM
رحلة الروح، أيام الحج العظيمة وعبق الإيمان تُمثّل أيام الحج في الإسلام ذروة العبادة الروحانية، وهي محطات زمنية تتجلى فيها عظمة النفوس المتلهفة للقاء خالقها، وتتضاعف فيها الأجور كقطرات ندى تروي ظمأ الروح. تبدأ هذه الأيام المباركة بنفحات من الهدوء والاستعداد، ثم تتوالى فصولها بحكمة بالغة، حيث يمُر الحاج بسلسلة من المناسك العطرة التي تقرّبه من خالقه وتطهره من كل ذنبٍ علق بروحه. ومن بين هذه اللحظات القدسية التي تظل محفورة في وجدان كل مسلم: يوم التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، ويوم القر، ولكل منها فضلها الخاص ومكانتها العالية في رياض قلوب المسلمين. يوم التروية، نداء الروح وشوق المسير: يُصادف يوم التروية اليوم الثامن من ذي الحجة، ويأتي كأنه همسة رقيقة تسبق عظمة اللقاء. وسُمي بهذا الاسم؛ لأنه كان وما زال يومًا ترتوي فيه الأرواح قبل الأجساد، استعدادًا لرحلة الشوق نحو عرفات ومنى، حيث كان الحجاج يملأون قلوبهم باليقين ويحملون معهم زادهم الروحي، فيرتوون فيه من الماء، ويحملونه معهم إلى عرفات ومنى؛ لعدم توفر الماء في تلك الأماكن في الماضي. وهو يوم الاستعداد الوديع، والتأهب المفعم بالخشوع للمناسك العظيمة التي ستليه. وفي هذا اليوم، يكسو الحجاج المتمتعون أنفسهم بالإحرام من مكة، وتشد خطاهم نحو منى، حيث تتوالى صلواتهم بهدوء، وتتزين لياليهم بالمبيت الدافئ فيها. وهذا اليوم ليس مجرد استعداد جسدي، بل هو إعداد لقلب الحاج، ليدخل في بحر من الإيمان ويتهيأ ليوم عرفة الأعظم الذي يلامس عنان السماء. يوم عرفة، قلب الحج ودمعة المغفرة: يُشرق يوم عرفة في اليوم التاسع من ذي الحجة، كقلب ينبض بالحياة في جسد الحج، وركنًا لا يكتمل دونه هذا البناء العظيم. وفي همسٍ نبوي، قال المصطفى ﷺ: "الحج عرفة"، وكأنها دعوة لتدرك الأرواح أن من فاته الوقوف بهذا الصعيد الطاهر فقد فاته العناق الأكبر مع الحج! في هذا اليوم المهيب، تتوجه وفود النور (الحجاج) من منى إلى صعيد عرفات الوضيء، يقفون هناك من زوال الشمس حتى غروبها، وقلوبهم ترتجف شوقًا، وألسنتهم تلهج بالدعاء، والتكبير، والتهليل، والتلبية، والاستغفار، وكأنها تراتيل سماوية تصعد إلى العرش. ويُعرف هذا اليوم بفضله العظيم الذي يغمر النفوس، ففيه يغفر الله للحجاج ذنوبهم كأنها لم تكن، ويقبل توباتهم بمداد الرحمة، ويعتق فيه من النار من تلامس روحه شفاعة هذا اليوم العظيم. وهو يوم يتباهى الله فيه بعباده أمام ملائكته الكرام، ويُستحب فيه الإكثار من الدعاء والابتهال، فدعاء عرفة من أرجى الدعوات أن تلامس الإجابة. ولغير الحجاج، فصيام هذا اليوم الطاهر يمحو ذنوب سنتين: سنة مضت وسنة قادمة، فما أعظم كرم الله! يوم النحر، ذروة الفداء وبهجة العيد: يُصادف يوم النحر اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو ذروة الشعائر وعيد الأضحى المبارك، وكأنه تتويج لرحلة الإيمان الصادقة، فهو يوم تتلاقى فيه تضحيات الأجساد والأرواح، وتُحمل فيه معاني الفداء والطاعة للخالق. فبعد عناء يوم عرفة وسكينة المبيت بمزدلفة، يتدفق الحجاج إلى منى مع إشراقة هذا اليوم المبارك، لتبدأ مناسك التحلل والبهجة. وفي هذا اليوم العظيم، يقوم الحاج برمي جمرة العقبة الكبرى بسبع حصيات، وكأنها رمز لرمي كل ما يوسوس في النفس ويقيّد الروح. ثم يأتي مشهد النحر، حيث يقدم الحاج أضحيته خالصًا لله، وهي فدية وتذكير بقصة النبي إبراهيم وولده إسماعيل -عليهما السلام-، وبذلك تتجسد أسمى معاني التسليم والإيثار. وبعد ذلك، يتوجه الحاج إلى بيت الله الحرام ليؤدي طواف الإفاضة، الذي يُعد ركنًا أساسيًا من أركان الحج، ثم يتبعه بـالسعي بين الصفا والمروة (للمتمتع والقارن)، ليكمل بذلك تحلله الأول، وتتفتح له أبواب بهجة العيد. ويوم النحر هو يوم فرح واحتفال، تتشارك فيه القلوب بهجة العطاء، وتفوح فيه روائح الأضاحي، معلنةً عن عظمة هذه الشعيرة وقدسيتها. أيام التشريق، نفحات من البهجة وذكر لا ينقطع: تلي يوم النحر (العاشر من ذي الحجة) أيام التشريق، كأنها أيام فرح تُكمل لوحة الحج البهية. وهي الأيام الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة. وسُميت بهذا الاسم؛ لأنها كانت شاهدة على نشر لحوم الأضاحي في الشمس لتجف، وكأنها دعوة لعموم البهجة وتقاسم الخير! وفي هذه الأيام، يبيت الحجاج في منى، وتتجدد حركتهم الروحية برمي الجمرات الثلاث: الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى (جمرة العقبة)، بعد الزوال من كل يوم، وكأنها رمز لرمي كل ما يثقل الروح من ذنوب وسيئات! وأيام التشريق، هي أيام عيد وبهجة، وقد نهى نبينا الكريم ﷺ عن صيامها، واصفًا إياها بأنها "أيام أكل وشرب وذكر لله"، وهي دعوة للفرح والامتنان. لذا، يُستحب فيها الإكثار من ذكر الله تعالى، والتكبير المقيد بعد الصلوات، والتكبير المطلق الذي يملأ الأجواء في كل وقت.

Comments