
لِلَّهِ حَدِيثُ قُلُوبِنَا
June 14, 2025 at 06:15 PM
-
«ذِڪر صفة بلاد الأندلس، وخبر فتحها، وشيءٍ من تاريخها، وخبر سقوطها».
الأَنْدَلُسْ: هي جزءٌ من يابسة البحر المتوسّط من جهة المغرب، تقع في أقصى غرب أوروبّا، وراء بحرٍ عظيمٍ يقال له المحيط الأطلسيّ، تُطلّ علىٰ بحرٍ من جهة الشمال يسمّى خليج البِسْڪايْ، وبلادٌ تُعرف عند الإفرنج بـ"فرنسا"، وتقابلها من جهة الشرق جزيرة ميورقة، ومن جنوبها جبل طارق الذي يُفضي إلىٰ إفريقية، وتُعرف اليوم عند الإفرنج باسم
"إسبانيا والبرتغال".
وهي أرضٌ ذاتُ مدنٍ ڪثيرة، أشهرها قرطبة، وإشبيلية، وطُلَيطِلَة، وغَرناطة، وبلنسية، وسرقُسطة، ومالقة، ومُرسية، ودانية، وغيرها، وڪلّ واحدةٍ منها تڪاد تڪون دولةً بنفسها من عِظَم عمرانها وامتداد سلطانها.
وفيها من الأنهار الڪبار: نهر الوادي الڪبير الذي يمرّ بقرطبة، ونهر شقورة الذي يمرّ بسرقسطة، وأنهارٌ كثيرةٌ تُفضي إلىٰ بحارٍ محيطةٍ بها، وأرضها خصبةٌ تخرجُ من الثمار والزروع ما لا يڪاد يُوجد مثله في غيرها، فيها الزيتون والعنب والتين والرمّان، وفيها من الأزهار والمياه الجارية والرياحين ما يُحيّرُ العقل، حتىٰ قال بعض من رآها: "ڪأنّما الجنّة قُدّمت للناس فنُشرت في أرض الأندلس".
وڪان أهلها -بزمن الإسلام- ذوي حُسن خلق، وأهلَ عِلمٍ وديانةٍ وفصاحةٍ وبراعة، انتشر فيهم العلم والفقه والحديث والقرآن، وظهرت فيهم الفلسفة والصناعة والهندسة والطب، وبلغوا في ذلك ما لم تبلغه أمم الأرض يومئذ.
ولم تڪن الأندلس في حوزة الإسلام منذ أوّل أمرها، بل ڪانت في أيدي الملوك القوط، وهم قومٌ من النصارى، لهم بأسٌ شديد، وڪانوا في جاهلية عمياء، وفسادٍ عميم، حتىٰ بعث اللّٰهُ عبدَهُ طارق بن زياد -رحمه اللّٰه-، فاجتاز البحر في سبعة آلاف من المسلمين، في سنة اثنتين وتسعين للهجرة، فأنزلهم عند جبلٍ عالٍ يُشرِف علىٰ البحر، فسُمّي الجبل به: جبل طارق.
فأوقع طارقٌ بالملك لذريق -ملك القوط- وقعةٍ عظيمة في سهلٍ يُقال له بَرْبَاط، فهزمه بإذنِ اللّٰه، وقُتل، وتمّ للمسلمين فتح البلاد شيئًا فشيئًا، وتبِعهم موسى بن نصير -والي المغرب- في إثرهم، حتىٰ تلاقيَا في طليطلة، وتعانقا عناق الإخوة.
ثمّ دخل الإسلام الأندلس، واستقرّ بها، وأقام المسلمون بها دولةً امتدّت أزيَد من ثمانية قرون، تعاقَب فيها الأمراء والخلفاء من شتّى البلاد يجمعهم الإسلام، وڪان أوّلهم بعد سقوط الدولة الأمويّة في المشرق عبدَ الرحمن بن معاوية الداخل، الملقّب بـ"صقر قريش"، الذي دخلها بعد أن نجا من بطش العباسيّين، فأسّس بها الدولة الأموية الثانية، وجعل قرطبة عاصمةً له.
وڪانت قرطبة يومها من أعظم مدائن الأرض، يُقال إنّ فيها ثلاثمئة مسجد، وثلاثمئة حمّام، ومئة سوق، وڪان فيها من المدارس والمڪتبات والمصانع ما لا يُحصى، وڪان الخليفة الأُمويّ الحڪَك المستنصر باللّٰه يملك من الڪتب ما لم يُوجد في خزائن الدنيا مثله، حتىٰ قيل: "إنّه ڪان عنده أربعمئة ألف ڪتاب، فُهرِسَت فهارسها في أربع وأربعين دفترًا".
وبلغ من عِزّ الإسلام في الأندلس أنّ أهلها ڪانوا يَصدّرون في العلم والفقه، حتىٰ أتى أهل المشرق يستفتونهم ويتعلّمون أمر دينهم منهم، وڪانوا يڪتبون من الشعر والنثر ما يملأ الدواوين ويُطرب المساميع، وخرج منهم الفلاسفة ڪابن رُشد، والأطبّاء ڪابن زُهر، والمؤرّخون ڪابن حيّان، والفقهاء ڪابن حزم، والقضاة ڪابن العربيّ، وغيرهم ڪثير.
ولڪن لم يدُم حالها على ذلك؛ فدَبّ الضعف في أوصالها في آخر أمرها، وتفرّقت بها الدول، فصار ڪلُّ إقليمٍ يتولّاه أمير، وتقاتلوا فيما بينهم، حتىٰ دخل العدوّ من ذلك المدخل، فاستعان بعضهم بالإفرنج علىٰ بعض، فڪان ذلك سبب دمارهم، وقد صدق قول القائل:
وبَعضُ الجهلِ يُفضي بالأنامِ
إلىٰ استِدعاءِ أفعًى مِن سُباتِ
فأخذت ممالك النصارى تحتلّ البلاد شيئًا فشيئًا، حتىٰ لم يبق في يد المسلمين إلّا غرناطة ونواحيها، فصمدت قرونًا، ثم غزاها النصارى سنة 897هـ / 1492م علىٰ يد الملِڪَين فرناندو وإيزابيلا، وبسقوطها سقطت الأندلس ڪلّها، وانقرض بها مُلكُ الإسلام من أرضٍ كانت له فيها العزّة والمجد والريادة.
وهڪذا دارت الأيّام، وتقلبت الأحوال، وأصبحت الأندلس تُذڪَر في الخُطب، وتُبڪَى في المجالس، ويُتغنّى بها في المراثي، ومِن أصدق ما قيل فيها قول أبي البقاء الرُّنديّ:
لڪلِّ شيءٍ إذا ما تمّ نقصانُ
فلا يُغرُّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هي الأمورُ ڪما شاهدتُها دُولٌ
مَن سرّهُ زمنٌ ساءتهُ أزمانُ
ولا غالب إلّا اللّٰه.
❤️
1