naseemalriad
naseemalriad
June 7, 2025 at 05:34 PM
خاطرة في العيد بسم اللّٰه الرحمن الرحيم الحمد للّٰه ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدنا محمَّدٍ سيد الأولين والآخرين، وإمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد: فإنَّ أعيادَ المسلمين لم تُشرَعْ لمجرَّد الفرحِ واللهوِ واللعب، ولكنَّها من شعائرِ الدين، فالسنَّةُ فيها أنْ يُظهرَها المسلمونَ ويُعلنوها. قال الحافظُ ابنُ حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري: إظهارُ السرورِ في الأعيادِ من شعائرِ الدين. فالعيدُ هو مناسبةٌ لإظهار الفرحِ بطاعةِ الله تعالى ورحمتِهِ ومغفرتِهِ، قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}. وإنما سُمِّيَ العيدُ عيداً لأنَّ للّٰهِ تعالى فيه عوائدَ الإحسانِ إلى عبادِهِ، وهو بمثابةِ مأدُبةٍ ربَّانيةٍ تأتي بعد القيامِ بعبادةٍ عظيمةٍ، فعيدُ الفطرِ يأتي بعد الفراغِ من صيامِ شهرِ رمضانَ الذي أوجبَ اللّٰهُ تعالى فيه على عبادِهِ تركَ الطعامِ والشرابِ وسائرِ المفطرات، ثم دعاهم جلَّ وعلا ــ بعد أن أدَّوا تلكَ العبادةَ ــ إلى مأدبةِ عيدِ الفطرِ ليفرحوا بفضلِ اللّٰه تعالى ومغفرته وإعانتِهِ لهم على عبادته؛ إذ كلُّ ذلك من فضلِهِ جلَّ وعلا. فعيدُ الفطر عيدٌ يستشعرُ فيه المسلمونَ السرورَ بما أدَّوا لله تعالى من عبادة، والإسلامُ حريصٌ على أن يُشيعَ هذه الفرحةَ في الناس جميعاً.. وكذا عيدُ الأضحى وأيَّامُ التشريق تأتي في موسمِ الحجِّ بعد يوم عرفة، وفي آخر العشرِ التي ما من أيام العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله تعالى منها. قال عليه وآله الصلاةُ والسلام: (أيامُ التشريقِ أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ، وذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وفي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّها (أيَّامُ أكلٍ وشُربٍ، وذِكْرِ الله عزَّ وجلَّ) إشارةٌ إلى أنَّ الأكلَ والشربَ في أيامِ الأعيادِ إنَّما يُستعانُ به على ذكرِ الله تعالى وطاعتِهِ، وذلك من تمامِ شكرِ النعمةِ أن يُستعانَ بها على الطاعات، وقد نُهيَ عن صيامِ أيام التشريق لأنها أعيادٌ للمسلمين. قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى في الاستذكار: وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيَّامِ مِنًى (إنها أيام أكلٍ وشربٍ وذكرِ اللهِ عزَّ وجل) فَإِنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ أَنَّهَا أَيَّامٌ لَا صِيَامَ فِيهَا، وأما الذكرُ فهو بمنى التكبيرُ عند رمي الجمار، وفي سائر الأمصار بإثر الصلاة. انتهى. يعني التكبير المسنون بعد الصلوات.. وهذا طبعاً في عيد الأضحى. وقال الإمام المناويُّ رحمه الله تعالى في فيض القدير عند قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنها أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرِ اللهِ عزَّ وجل): أي: أيامٌ يأكل الناسُ فيها ويشربون ويذكرون، فإضافةُ الأيامِ إلى الأكلِ والشربِ والذكرِ إضافةُ تخصيصٍ. قال الأشرف رحمه الله تعالى: وعقَّب الأكلَ والشربَ بذكر اللهِ تعالى لئلا يستغرقَ العبدُ في حظوظِ نفسِهِ، وينسى في هذه الأيام حقوقَ اللهِ تعالى. وقال الطِّيبِيُّ رحمه الله تعالى: هذا من باب التتميم؛ فإنَّه لمَّا أضافَ الأكلَ والشربَ إلى الأيامِ أوهمَ أنها لا تصلُحُ إلا للدَّعَةِ والأكلِ والشربِ؛ لأنَّ الناسَ في هذه الأيامِ ينبسطونَ، فتدارك بقوله: (وذكرِ الله) لئلا يستغرقوا أوقاتَهم باللذاتِ النفسانية، فينسَوا نصيبَهم من الروحانية. انتهى. فصارتْ هذه الأيامُ ضيافةً منَ الله تعالى لعبادِهِ من الحجيجِ وغيرِهم من أهل الأمصار الذين شاركوهم في الاجتهاد في العبادة في عشرِ ذي الحجة، فشاركوهم أيضاً في أعيادهم، وصار المسلمون كلُّهم في ضيافةِ الله عزَّ وجلَّ. فالمسلمون إذاً في عيد الفطر وأيام عيد الأضحى هم في ضيافة الرحمن جلَّ وعلا، يستشعرون فيها السرور بما أدَّوا لله تعالى من عبادة، راجين من الله تعالى القبولَ والرضا، ويأخذون حظَّهم من الطعام والشراب والتهاني، ويتقوَّون بذلك على طاعة الله سبحانه وتعالى، من الذكر والعبادات وصلة الأرحام وزيارة الإخوان والخلان، وما شاكل ذلك من الطاعات، فبابُ الطاعاتِ واسع. وهنا قد يعترضُ المسلمَ تساؤلٌ من نفسه أو من غيره: كيف يطيب لنا عيشٌ؟ وكيف نُظهِر سروراً في أيام العيد مع ما تلقَّينا من المصائب في النفس والأهل والمال، وما تجرَّعناه من ألمِ فقد الأحبَّة؟! وأخصُّ بالذكر في هذا اليوم - لا سيما وأنَّ هذه الخاطرة كُتبت ونُشرت منذ سنوات ولكنَّ المِحَن والمِنَحَ تتجدَّد - ولذا فإني أخصُّ بالذكر في هذا اليوم الأغرِّ المُبارك يومِ عيدِ الفطر، ويوم الجمعة الأغر الأزهر.. مَنْ أُصيبوا بمُصابِ هذا الزلزال العظيم، فأصابهم ما أصابهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: 155]، ثم أخصُّ الأحباب بل وعمومَ المسلمين حيث أُصيبوا بعد هذا بمُصاب جَلَل، ألا وهو انتقالُ شيخِنا وقرةِ عيونِنا فضيلةِ الإمام سيدي الشيخ أحمد فتح الله جامي رضي الله تعالى عنه ونفعنا به.. نعم قد يعترضُ المسلمَ هذا التساؤلُ من نفسه أو من غيره، كيف يطيب لنا عيش والحال هذه؟! كيف نهنأ بالعيد؟! ما معنى العيد؟! وإنَّه لتساؤلٌ وجيهٌ ينمُّ عن شعورٍ صادق وعواطفَ جيَّاشةٍ تجاه من نحب.. ولكنَّ الشريعةَ الإسلامية ـ ولله الحمد والمِنَّة ـ لم تتركنا حيارى في أمرٍ من الأمور، وفي حال من الأحوال؛ فالمسلمُ إذْ ينظرُ إلى العيد بمنظارِ الشريعة لا بمنظار العادة، فإنه يجدُ مُتَّسعاً في قلبه وفي حياته للفرح بالعيد وبهجته، وفي الوقتِ نفسِهِ يملأُ قلبَهُ الحزنُ لمصائبِ المسلمين وما حلَّ بهم، راضياً بقضاء ربِّ العالمين، مستسلماً لقضائه جلَّ وعلا، باذلاً جهدَهُ في خدمة المسلمين؛ فكِلا الأمرين - من الحزنِ المقرونِ بالصبر والرضا، وإظهار الفرح في وقته حيث إنه من شعائر الدين.. كلُّ ذلك مع الإخلاص - قُربَةٌ يُتقرَّبُ بها إلى الله عزَّ وجلَّ. قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس أحدٌ إلا وهو يفرحُ ويحزنُ، ولكن اجعلوا للمصيبة صبراً، وللخير شكراً.. فنحن ولله الحمد بنفس الساعة نقوم بواجبنا الشرعي، من الحزن الذي ربَّما لا يُنسى، ومن الفرح الذي نحن مأمورون به، وهو من شعائر ديننا. فالفرحُ بفضل الله تعالى وإظهارُه امتثالاً لأمر الله تعالى قربةٌ يُتَقرَّبُ بها إلى الله تعالى، وكذا الحزنُ والتأثُّرُ لحال المسلمين قربةٌ أيضاً، كيف لا! وقد قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى. هذا وقد شاع عند بعض المسلمين أنَّه لا طعمَ للعيد ولا بهجةَ فيه في ظلِّ ما يعيشه المسلمون من ظروفٍ صعبة ومصائب ونكبات وغير ذلك، وما هذا إلا بسبب النظر إلى العيد بمنظار العادة، فلما اختلفتِ العادةُ بسبب الهجرة من الأوطان، وغيرها من الأسباب، لم يَبق داعٍ ـ عندهم ـ للبهجة والسرور، ولو أنَّ أحدهم جاءتْه هديَّةٌ أو عطيَّةٌ فإنه يبتهجُ ويفرحُ بها، ولا يمنعه الحال من السرور والفرح بما أُعطي؛ لأنَّ عدم بهجته في العيد سببه نظره إلى العيد بعين النظر إلى العادة فقط، ونحن ينبغي أن نكون مصطبغين بصبغة الإسلام.. ومن أوائل ما سمعت من شيخنا رضي الله تعالى عنه ونفعنا به ينبِّه إلى أن المسلم ينبغي أن يكون متكامل الشخصية، واستدلَّ على ذلك بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: 208] «في السِّلْم» يعني في الإسلام.. «كافَّة»: يعني بكلِّ تعاليمه.. في حين أنَّ المؤمنَ الذي يتعامل مع المناسبات على أساس الشريعة، يتقرَّبُ إلى الله تعالى بإظهار البهجة والفرح بفضل الله تعالى ورحمته، وفي الوقت نفسه يحزن على حال المسلمين.. فلا حزنُه على المسلمين وما حلَّ بهم من المصائب يُنسيه بهجةَ العيد، ولا ابتهاجُه بالعيد يُلهيه عن الاهتمام بأمر المسلمين والحزن على مصابهم، والقيام بما عليه تجاههم؛ وهذا من تكامل شخصية المسلم. اللهم إنا نسألك ونتوجَّه إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، وبحرمة كتابك الكريم ومَنْ أنزلتَه على قلبه الشريف صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.. أن تَرُدَّ المسلمين جميعاً إلى دينك وسُنَّةِ نبيِّك صلى الله عليه وآله وسلم ردّاً جميلاً، وأن تفرِّج عن المسلمين فرجاً قريباً عاجلاً، وأن تعيد المسلمين البعيدين عن أوطانهم إلى ديارهم آمنين مطمئنين، مستظلِّينَ بظلِّ كتابك، مستمسكين بهدي نبيِّك المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، متآلفينَ متحابِّينَ متعاونين برحمتك يا أرحم الراحمين. ويرحم الله تعالى القائل: لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي.. فنسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا أينما كنا وحيثما حللنا نعيش مع الله.. وصلى الله على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله ربِّ العالمين. محمد عبد الله رجو *** حُرِّرَ بتاريخ: ١١ / ذو الحجة / ١٤٣٧هـ ـ الموافق: ١٢ / أيلول / ٢٠١٦م وتمَّت إعادة تحريره مع بعض الزيادات في عيد الفطر بتاريخ: ١ / شوال / ١٤٤٤هـ ـ الموافق ٢١ / نيسان / ٢٠٢٣م *** لمتابعة نسيم الرياض: على الفيسبوك: https://www.facebook.com/naseemalriad وعلى التليغرام: https://t.me/naseemalriad وعلى تويتر: https://twitter.com/naseemalriad وعلى اليوتيوب: https://youtube.com/@naseemalriad
❤️ 👍 😂 58

Comments