
العــــروةُ الوُثــقى
June 19, 2025 at 10:48 AM
بسم الله العليم الحكيم، الذي علّم بالقلم، ورفع الذين أوتوا العلم درجات، ولم يرفع المتعجلات، ولا المتفيهقات، ولا المتزيّنات بالعلم زينة المظاهر لا جوهر البصائر.
هذا خطابٌ لا يُرسل إلى العقول التي امتلأت، بل إلى النفوس التي انتفخت، كلامي لا يُوجَّه إلى الطالبة الصادقة، بل إلى المتعجلة المتصدرة، التي أمسكت أوّل كتاب، فقفزت به إلى الناس،
وأول ما حفظت من المتون جعلته سلاحًا، وأول ما سُئلت عن العلم فتحت باب "أُجيزك".
يا فتاة العلم، بل يا فتاة الزهو المغلف بالعلم، قفي وتأملي!
قفي عند أول خطوة، واسألي نفسك: أين أنا من فهم ما أروي؟ وأين قلبي من خشية ما أحفظ؟ وأين صدري من سعة ما أتجرأ على تدريسه؟ ما هكذا يُطلب العلم، ولا هكذا يُورث، العلم ليس سُلمًا إلى التعظيم، بل سلّمًا إلى التواضع، ليس مجالًا للسبق، بل مضمارًا للبكاء في الخفاء، ليس منصةً يُعتلى بها، بل محرابٌ يُبكى فيه. أتراكِ تظنين أن الإجازة تُعطيك السلطان؟ بل هي، والله، سطرٌ من سطور الاعتراف بأنك بدأتِ، لا أنك بلغتِ. قال الإمام مالك: « ما أفتيت حتى شهد لي سبعون من أهل العلم أني أهل لذلك."
وأنتِ، من زكّاك؟ من شهد لك بالفهم قبل الحفظ ومن أيقن أن صدرك يحمل الورع لا الورق؟ يا طالبة الإجازة، أرفقي بنفسك، قبل أن تكوني ممن قال فيهم السلف: “من تصدر قبل أوانه، فقد تصرّف في هوانه”.
العلم لا يُقاس بعدد المتون، ولا بكثرة الإجازات، ولا بعدد الشيوخ الذين تلتقطين أسماءهم كأوسمة،بل يُقاس بتواضعك حيث يُحب الناس التصدر، وببكائك حيث يضحكون، وبسكوتك حين يطلبون منك الكلام، وبإجابتك بـ"لا أدري" في زمانٍ صارت هذه الكلمة عورة!
قال عبد الله بن المبارك: « طلبت العلم، ولم يكن لي نية، ثم رزقني الله النية بعد أربعين سنة."
وأنتِ، يا حفيدة النيات المعوجّة، في شهرك الأول تُعلنين أنك داعية، ومجازة، ووريثة علوم الشريعة ؟ بل أنتِ وارثة وهم، لا علم، ولبستِ لبوس العلماء ولم تلبسي همّهم، وتصنعين من نفسك جسراً يُمشى عليه إلى "الجهل المقدّس"، لأنك تدرسين ما لا تفهمين، وتروين ما لا تعين، وتجيزين ما لا تحملين.
اعلمي أنّ الخطأ في العلم جريمة، لكن الخطأ في تبليغ العلم قبل التحقق منه، خيانة.
خيانة للدين، وخيانة للعلماء، وخيانة للقلوب التي تتلقّى عنك، تظنّكِ من الراسخات، وأنتِ بعدُ من المبتدئات فعودي، عودي إلى أول الطريق، عودي تلميذة لا "شيخة"، متسائلة لا "مجيزة"، مُقبلة على كتب السلف بعين التعلُّم، لا بعين الانتقاء، فالعلم لا يُؤخذ على سبيل الزينة، بل على سبيل الزُّهد فيه، ومن زهد فيه رزقه الله فتحًا.
ولا تعجلي، فإن الله لا يستعجل، ومن استبطأ الطريق إلى مراده بالعلم، قاده الله إلى مراده، ومن استعجله، خُذل. قال الشاطبي:
"من أخذ العلم عن الكتب بلا شيخ، فقد ضلّ عن الطريق." فكيف بمن لم تأخذ لا عن كتب ولا عن شيوخ، بل عن مقاطع متفرقة، وحصص متناثرة، ثم تصدّرت؟!
اللهم طهّر طلب العلم من أدعيائه،
وردّ القلوب إلى التواضع،
واجعلنا ممن يتعلم ليهتدي، لا ليُمدح،
ويعلّم ليُطاع الله، لا ليُشار إليه بالبنان،
اللهم اجعلنا من التابعين للهدى، لا المتقدمين عليه.
- أمَ حيّان 🌷