
أخبار شبكة العهد
February 8, 2025 at 05:55 AM
ولم يفوّت المتربّصون حدثاً بمأسوية انفجار مرفأ بيروت لاستغلاله بوصم الشيعة أنهم اعتكفوا عن الحزن الوطني (اتهام شارك فيه إعلامي لبناني بارز يعمل في الخليج، قبل أن يحذف تغريدته نتيجة ما استجلبته من إدانات).
لكن استكمال مشروع «تهجير الهوية» الشيعية والمقاوِمة لم يكن ليكتمل بدون روافد سياسية، يمكن الحديث عن ثلاثة منها على الأقل:
الأوّل، هو اختزال علاقة المقاومة بإيران بكونها علاقة وكالة (وهو ما يعترف كثر من الأكاديميين الغربيين بكونه تعريفاً بدائياً وقاصراً). هذا الاختزال تم توظيفه لإطلاق مقولة «الاحتلال الإيراني» للبنان حين حاز حزب الله وحلفاؤه الأكثرية النيابية بعد انتخابات 2018، وبذريعة ذلك فُرضت ضغوط اقتصادية على البلد من باب التأديب وتدفيع الثمن (المفارقة أن إيران لا يمكنها ابتزاز لبنان أو ترهيبه على عكس قوى المحور المقابل).
ثانياً، تصوير المقاومة على أنها معادية لفكرة الدولة ونقيض لها، فيما هي واقعاً لم تنبت إلا لغياب الدولة المتعمّد عن تطبيق نظرية للأمن الوطني تعالج التهديد الصهيوني ولعجز إرادتها السياسية عن توفير مستلزمات ذلك.
ثالثاً، تأطير حزب الله بعد عام 2015 بكونه جزءاً من منظومة الحكم بكل موبقاتها، ثم حارساً للمنظومة، ثم أخيراً جعله، مع حليفه حركة أمل، المنظومة نفسها. لكل من الحزبين علاقته بنظام الحكم والسلطة ويصح فيه النقد والاعتراض، لكن النظام السياسي اللبناني وشبكاته الطائفية والمالية أكثر تعقيداً وشمولاً بكثير من دور الحزب والحركة، وهو نظام مستتبع بنيوياً للمراكز الاستعمارية منذ القرن التاسع عشر حتى تاريخه.
لكن التعبئة المطلوبة ضد الهوية المقاوِمة أفضت إلى تحويل «الثنائي الشيعي» كأنه الحاكم المستبد في نظام سياسي بسيط ومجتمع متجانس، وهكذا تظهر مواجهة الثنائي على أنها فعل نضالي ثوري وهو ما يدغدغ مشاعر الجماهير الغاضبة والمستثارة. في الواقع، كثر من مطلقي هذا التضليل هم مكوّن محوري في شبكات مصالح النظام الطائفي الداخلية والخارجية والأكثر نفوذاً وانتفاعاً منه. دليل بسيط على ما تقدّم، أنّ بعض خصوم المقاومة ممّن سمّوا رئيس الحكومة المكلف نواف سلام يهاجمونه الآن بشدّة خشيةً من أجندته لإصلاح القطاع المصرفي اللبناني لمسؤوليته الكبرى في الانهيار الاقتصادي اللبناني.
بهذه الثنائية الثقافية والسياسية لتهجير الهويتين الشيعية والمقاوِمة تكتمل فصول تحويل مجتمع المقاومة إلى جالية أجنبية في لبنان (من ضمن ذلك تكرار مقارنة تجربة حزب الله بتجربة منظمة التحرير في لبنان). وهكذا يصبح متاحاً استدراج العروض الدولية والإقليمية لتمويل «الحرب على إيران في لبنان». وبما أنه جرى تصوير أنصار المقاومة على أنهم مجرد جالية إيرانية/ أجنبية أصبح «مشروعاً» خطاب الاستقواء بنتنياهو عليهم والشماتة بدمار قراهم والتحريض على قتلهم، بعدما كان ذلك يُعدّ فعل خيانة وانتهاكاً للقيم الوطنية.
وثانياً أصبح الجهر بطلب الوصاية الأميركية فضيلة، ولا سيما أنه لم يعد من الممكن نكرانها من فرط بروزها. فبدأت تظهر مقولات عجيبة تشرح العلاقة المتينة بين الاستقلال والوصاية، فلا استقلال للبنان من دون وصاية يُستقوى بها، ولا سيادة للبنان من دون المشاركة في صراع المحاور ضد إيران (ثم يصفّق أصحاب هذه المقولات، حتى تتورّم أيديهم، لمقولة الرئيس المنتخب جوزف عون عن الحياد الإيجابي). ومن المرجح أن أنصار هذه الحملة يراهنون على أنه من خلال تمجيد الوصاية والاستقواء وتكريسهما يمكن إرساء مسوّغات لخطاب التطبيع مع كيان العدو لاحقاً.
الأصل في الهوية اللبنانية التنوّع والتعدّد، فهي ينبغي أن تتحدّى كل أشكال التهميش السياسي والاقتصادي والطبقي والمناطقي والثقافي. إنّ فكرة المقاومة والعداء لكيان العدو الصهيوني مكوّن أصيل من الهوية اللبنانية (بمعزل عن المواقف حيال كيفية تنظيم علاقة المقاومة بالدولة)، وهو ما تثبته استطلاعات الرأي المختلفة (بحسب البارومتر العربي لعام 2019، يجد 79% من اللبنانيين أن إسرائيل هي التهديد الأكبر لبلدهم). كذلك هي حال نمط الحياة المحافظ لدى شرائح واسعة من كل الطوائف اللبنانية (ولا سيما خارج مراكز المدن الكبرى)، وليس محصوراً ببيئة المقاومة اللصيقة (البيئة المؤيّدة العامّة للمقاومة هي شديدة التنوّع الثقافي حتى في نمط الحياة اليومية).
وختاماً، يلزم التنبيه أن لا تدفع الحملات المعادية للمقاومة تحت ستار «الهوية اللبنانية» إلى ردود فعل عدائية تجاه الانتماء اللبناني. المسؤولية اليوم تقتضي من قوى المقاومة في لبنان ومؤيديها تثبيت مواقعهم وتعزيزها داخل الدولة اللبنانية والثقافة اللبنانية ضمن رؤية منفتحة على التعدّدية الداخلية (الثقافية والطبقية والسياسية والمناطقية) وكذلك على الارتباط المتين بأحوال الجوار والإقليم المأزومين بفعل سياسات الهيمنة الأميركية.وهذا الأمر يستدعي تعزيز المكوّن الاجتماعي والنضالي لمشروع المقاومة بما يسمح بإعادة تشكيل خطوط التنافس المحلّي وفق قضايا حقيقية تخصّ الناس العاديين، وهو تنافس لا بد أن يقع قسم كبير منه داخل بنية الدولة لتطوير وظيفتها الاجتماعية وليس للمغالبة الفئوية.
حسام مطر