
مجلة البيان
February 10, 2025 at 06:12 PM
#بين_يدي_الساعة_وقفات_تربوية
صراع الماديات والمبادئ
بقلم/ فايز بن سعيد الزهراني
ثمة أمر مُهمّ يُستفاد من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَادِرُوا بالأعمال فِتنًا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعَرض من الدنيا»[1].
وهو استعلاء الماديات على القِيَم والمبادئ والعقائد في زمان الفتن المُخبَر عنه، وكذلك سَعْي كثير من الناس في شؤون الدنيا سعيًا حثيثًا يضرّ بآخرتهم، حتى إن بعضهم إذا كان في موقف عليه أن يختار فيه ما بين قِيَمه ومبادئه أو إدراك شأن من شؤون الدنيا فإنه يختار هذا الشأن الدنيوي ويُنحّي قِيَمه ومبادئه جانبًا، بل يصل الحال ببعضهم -والعياذ بالله- أنه لا يتردد في ترك دينه لأجل مَغْنمٍ دنيوي؛ منصبٍ أو وظيفةٍ، أو مالٍ أو جاهٍ، أو شهرةٍ، أو مكانةٍ اجتماعية، أو سلامةٍ، فيكون ممن باع دينه بعَرَض من الدنيا.
والعَرَض في الحديث: اليسير الذي يذهب ويزول[2]. فهو يتحدَّث عن شأن دنيوي قد لا يبقى، وما دام أنه بهذا الوصف فهو لا يستحقّ أن يكون ثمنًا لبيع الثوابت من القِيَم والمبادئ والعقائد.
وهؤلاء هم الذين ينطبق عليهم وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر: «تَعِس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة؛ إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ سخط. تعس وانتكس وإذا شِيك فلا انتقش»[3]؛ فهُم عُبَّاد نقود وملابس ومظاهر، تتمحور سعادتهم حولها، وتتأثر بمقدار ما ينالون منها، وعليها تُشَاد مفاخرهم وتُبنَى مكانتهم. ولقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك الذين يُقدِّمون الدنيا على دينهم وفكرهم ومبادئهم بالتعس الذي هم يفرّون منه؛ فإن الجزاء من جنس العمل.
ولا ننكر الرغبة البشرية في المال ومتاع الدنيا، فإن هذا أمر طبيعي لا يُؤاخَذ عليه الإنسان؛ ما لم يتعدَّ فيه حدود الله -تعالى-. لكنّ هذا الحديث يكشف عن دلالات نفسية مهمة تتعلق بضعف بعض النفوس أمام تلك المغريات المادية، وأن مِن الفتن ما قد يجعل بعض الناس أكثر انغماسًا في الرغبات والشهوات المادية، مما يؤدي إلى تفريطهم في أمور دينهم، وربما ضياع هويتهم الإسلامية.
الشريعة مستهدفة بالتغيير
وقد أشار الطيبي إلى أنه من الأوجه التي يصح بها معنى الحديث: «ما يجري بين الناس من المعاملات والمبايعات، وغيرها مما يخالف الشرع فيستحلّونها»[4]؛ أي: أنه يصل بهم الحال إلى أن يجعلوا الحرام حلالاً لأجل الحصول على مكاسب دنيوية. ولن يقفوا عند هذا الحد حتى يجعلوا ذلك الحرام شريعة يؤمنون بها، وقانونًا منصوصًا على إباحته، وربما قامت مؤسسات وكيانات تسوّق له وتُرغِّب في اقتحامه!
ويعمد كثيرون إلى لَبْس الحق بالباطل في المعاملات والأفكار والعلاقات، فيسمَّى مال الربا في الأزمنة الأخيرة بين يدي الساعة «فوائد»، ويُوصَف بأنه ضرورة اقتصادية، ويُسمَّى الزنا في هذه الأزمنة «مساكنة»، ونتيجته الآثمة «حَمْلاً خارج إطار الزوجية»، وتسمَّى العاهرة «حبيبة»، ويسمَّى المُخالِط للمرأة الأجنبية عنه المختلي بها «زميلاً»، ويسمَّى الاحتلال «تحريرًا وأمنًا قوميًّا»، ويسمَّى قتل المسلم لأخيه المسلم «وطنية»، ويسمَّى الانفلات الأخلاقي «حرية»، وهلم جرا.
ويدل استحلال الحرام وتطبيعه في مجتمعات المسلمين على ضعفٍ في قيام بعض أهل العلم وحَمَلة الإسلام بدَوْرهم الذي كلَّفهم الله به؛ فقد قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187]. وأهل العلم مخاطَبون بهذا بالدرجة الأولى، وكلما دبَّ الضعف في صفوفهم شُوِّهت المفاهيم وحُرِّفت الشريعة.
الاستهلاك نموذج الاستعلاء المادي
ويُعدُّ «الاستهلاك» من أبرز مظاهر علو المادة؛ حيث تقوم فكرةٌ مفادها أن الاستهلاك طريق إلى السعادة ولازم لها بمقام القانون العام، وتُروَّج هذه الفكرة بين الناس، وتُصنَع لها الدعاية الإعلامية التي تُسوِّق للأشياء بخداع الناس وإقناعهم أنها تحوي مشاعر وعواطف ولذائذ، حتى وجدنا شرائح من الناس تعبد الخميصة والخميلة من خلال «الاستهلاك».
ولا شك أن فيما نُحبّه من أمور الدنيا ما يُسعدنا، لكنّها سعادة مُؤقَّتة، ومُقدَّرة بحجم مُحدَّد.
وحتى لا نقع في فخّ «تشييء السعادة»؛ أي جعلها شيئًا ومادةً؛ فنسعى إليها من خلال مقتنيات وأموال ومناصب ومظاهر؛ فإنه يتوجب علينا أن نعطي الأمور حجمها وقَدْرها الموزون بميزان الله -تعالى-، قال -تعالى-: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ 7 أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ﴾....
المقال https://albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=33248
🔴 من مقالات #مجلة_البيان عدد(456) لشهر شعبان 1446هـ
👍
1