
مجلة البيان
February 14, 2025 at 01:21 PM
#قضايا_دعوية
الوقـف والابتـداء فـي القــرآن الكريم
بقلم/ محمد عبد الشافي القوصي
يُعدّ فنّ (الوقْف والابتداء) مِن أهم علوم القرآن، ومِن أجلّ المباحث في «عِلْم التجويد» التي ينبغي للقارئ الاهتمام بها وإتقانها؛ فبمعرفتهِ وتطبيقهِ لها تكون معاني الآيات واضحة بيِّنة للقارئ والسامع.
ويُستعان بهذا الفن على فَهْم أسرار القرآن، والغوص على دُرَره وكنوزه، وتتّضح به الوقوف التامة، والكافية والحسان؛ فتظهَر للمُتأمِّل والمُتدبِّر المعاني على أكمل وجوهها وأصحّها، وأقربها لمأثور التفسير ومعاني لغة العرب.
هذا، ويُعالج عِلْم (الوقف والابتداء) جانبًا مهمًّا في أداء العبارة القرآنية؛ فهو يُوضِّح كيف يبدأ وأين ينتهي القارئ لآي القرآن الكريم، بما يتفق مع وجوه التفسير، واستقامة المعنى، وصحة اللُّغة... فإنَّ اعتماد العلماء في وضع الوقوف وتفصيلها، وبيان وجوهها مَبنيّ على النظر في معاني الآيات، وكلامهم في المعاني.
وقد اهتمَّ الصحابة الكرام بمعرفة الوقف بتوجيهٍ من الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ كاهتمامهم بمعرفة معاني القرآن، والوقوف على حلالهِ وحرامه.
يقول أبو بكر الأنباري: «ومِن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه: معرفة الوقف والابتداء فيه؛ إذْ لا يتأتَّى لأحدٍ معرفة المعنى للقرآن إلَّا بمعرفة الفواصل؛ فينبغي للقارئ أن يعرف الوقف التام والوقف الكافي الذي ليس بتامّ، والوقف القبيح الذي ليس بتامّ ولا كافٍ»[1].
وقال «الأشموني»: «ولا يقوم بهذا الفن إلَّا مَن له باعٌ في العربية، عالِمٌ بالقراءات، عالِمٌ بالتفسير، عالِمٌ باللغة التي نزل القرآنُ بها على خير خَلْقِــه»[2].
مقاصــد الابتـداء والوقـف
معلوم أنَّ (الابتداء) لا يكون إلاَّ اختياريًّا؛ لأنه ليس كالوقف تدعو إليه ضرورة؛ فلا يجوز إلَّا بمستقلّ بالمعنى مُوفٍّ بالمقصود.
أمَّا (الوقف) فهو الكفُّ والحبس؛ أيْ: قطع الصوت والسكوت على آخِر الكلمة زمنًا يتنفَّس فيه القارئُ بنيَّة استئناف القراءة. وينقسِم الوقف إلى قسميْن:
وقف اضطـراري: وهو أن يقف القارئُ مضطرًا من غير إرادة لسببٍ عارض، كالعطاس وضِيق النفس والسعال والنسيان، وغير ذلك.
وقف اختيــاري: وهُو أن يقف القارئُ باختياره وإرادته، وهذا النوع ينقسم إلى قسميْن:
- الوقف الاختياري الجائز: وهو الوقف على ما تمَّ معناه، وهو ما يَجب الحرص عليه؛ حتى تكون معاني الآيات واضحة بيّنة للقارئ والمستمع. فهو وقْف لا يتعلق بما بعده لا لفظًا ولا معنًى، كالوقف أواخر السُّوَر، أو عند نهاية القصص، أو أواخر صفات المؤمنين أو الكافرين، أو عند الانتهاء من ذِكْر الجنَّة أوْ النَّار، أو غير ذلك من المواضع التي ينتهي عندها موضوعٌ ما ويبتدئ آخَرُ. ويَحسُن الوقف عليه والابتداء بما بعده، ومن ذلك:
الوقف على كلمة (الْمُفْلِحُـونَ) في قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 5-6]؛ حيث انتهى الحديثُ عن صفات المتقين، وابتدأ بعدها الحديثُ عن صفات الكافرين.
ويحدّثنا ابنُ مسعود حديثًا يدلّ على الوقف في كلام الله دون التمام؛ إذْ يقول: قال لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «اقرأ عليَّ»؛ فقلتُ: أَأَقرأ عليكَ وعليكَ أُنزل؟ قال: «إنّـي أُحبُّ أن أسمَعَه مِن غيري». قال: فافتتحتُ سورةَ النساء فلمَّا بلغتُ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: 41]؛ رأيتُ عيناه تذرفان. فقال لي: «حَسْبك» (أخرجه البخاري: ٥٠٥٦، ومسلم: ٨٠٠).
فالقطع على قوله ﴿شَهِيدًا﴾ ليس بتامّ، فما بعده مُتعلِّق بما قبله والتمام: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: 42]؛ لأنه انقضاء القصَّة، وهو في الآية الثانية، وقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنَ مسعود أن يقطع عليه دونه، مع تقارب ما بينهما؛ فدلَّ ذلك دلالة واضحة على جواز القطع على الكافي.
- الوقف الممنوع أوْ غير الجائز: وهو الوقف على ما لم يتم معناه. ويُسمَّى -أيضًا- بالوقف اللازم، وهو الوقف على كلمةٍ لإيضاح المعنى إذا كان «الوَصْل» يُسبِّب التباسًا في المعنى في ذهن السامع وعدم إدراك للمراد من كلام الله، ويُشار إلى الوقف اللازم في رسم المصاحف بحرف «ميـم» صغير؛ ومِن ذلك: الوقف على كلمة ﴿قَوْلُهُمْ﴾ في قوله -تعالى-: ﴿وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ۘ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ۚ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يونس: 65]؛ فعدم الوقف قد يُفهَم منه أنَّ قولهم بأنَّ العزة لله جميعًا هو مَدعاة الحزن.
مثال آخَر: الوقف على كلمة (عَنهُمْ) في قوله سبحانه: ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ ۘ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ﴾ [القمر: 6]؛ إذْ عدم الوقف قد يُفهَم منه أن التولّي مأمور به ﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ﴾، فكان لزامًا الوقف على ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾؛ حتى يتضح المَراد، ويُعلَم أنَّ معنى الجزء الأول من الآية انتهى، وأنَّ المعنى الثاني بدأ.
هذا، وتتفاوت درجات الوقف الممنوع قُبحًـا:
منه ما يجعل النصّ المقروء بلا معنى ولا فائدة، ويترك السامع دون إدراك للمراد من النص المقروء؛ كالوقف على الفعل دون الفاعل، أو المبتدأ دون الخبر، أو الشرط دون الجواب، أو على الناصب دون المنصوب، أو الجار دون المجرور، ومِن ذلك:
- الوقف على (وَهَلْ أَتَاكَ) في قوله -تعالى-: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾ [طه: 9].
- الوقف على (اسْمَ) في قوله -تعالى-: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى:1].
وأشدّ مِن هذا قبحًا الوقف على ما يُوهِم معنًى يخالف المراد، ومِن ذلك:
- الوقف على (وَالْمَوْتَى) في قوله -تعالى-: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ۘ وَالْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [الأنعام: 36]، والصحيح هنا الوقف اللازم على ﴿يَسْمَعُونَ﴾؛ حتى لا يتوهَّم السامع أنَّ «الواو» بعدها للعطف، وأنَّ الموتى مع الذين يسمعون وهم الذين يستجيبون.
- الوقف على (الصَّلاَةَ) في قوله -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43].
وأشدّ مِن هذا قُبحًا ما يُوهم معنًى مُخالفًا للعقيدة أوْ وصفًا لا يليق بالله -سبحانه- نحو:
- الوقف على ﴿يَهْدِي﴾ في قوله -تعالى-: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [المنافقون:6].
- الوقف على ﴿يَسْتَحْيِي﴾ في قوله -تعالى-: ﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ [الأحزاب: 53].
وجــوه الوقـف وأسبابه
لقد اصطلح الأئمةُ على أنَّ للوقف ثلاثة أوجه؛ (تام، وحسن، وقبيح):
فالوقف التـام: الذي يَحسُن الوقف عليه والابتداء بما بعده، ولا يكون بعده ما يتعلق به، كقوله: ﴿وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5]. وقوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6].
والوقف الحَسَـن: هو الذي يَحسُن الوقف عليه، ولا يَحسُن الابتداء بما بعده كقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ لأنَّ الابتداء بـ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: 2]، لا يَحسُن لكونهِ صفة لِمَا قبله.
والقبيـح: هو الذي ليس بتامّ ولا حَسن، كالوقف على «بسم» من قوله {بسم الله}.....
المقال https://albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=33250
🔴 من مقالات #مجلة_البيان عدد(456) لشهر شعبان 1446هـ