تأملات سلوكية
February 17, 2025 at 07:34 PM
في رثاء الشيخ الأديب موسى بن سالم الرواحي شاعر الفطرة السليمة
الحمدُ للهِ الذي جعلَ الموتَ حقًّا، وأودعَ الحياةَ نكدًا، وابتلى الخلقَ بفقدِ الأحبابِ، حتى يميزَ الصابرَ من الجزوع، والحامدَ من الساخط، والمستبصرَ من الغافل. ولو كان في الأرضِ من يستثنى من الفناءِ، أو يُعفى من الرحيلِ، لكان ذلكَ حظُّ العلماءِ الأفذاذِ، والشعراءِ النابغينَ، والخطباءِ المُفلقينَ، ولكن هيهات! فالموتُ سُنَّةُ الأولينَ والآخرينَ، وما أمل الناس من الحياةِ حتى تبلى، ولا أقصرُ أعمارًا من أعمارِ الأبرارِ حتى يُرثى لهم وهم في دارِ البقاءِ.
أما بعدُ، فلو أنّا نرثي من فقدنا بأحرفِ الدمعِ، لأجرينا أنهارًا، ولو أنّا نقيمُ المآتمَ بقدرِ المصابِ، لضاقت الأرضُ بمن عليها، ولكنَّا نُعزّي النفسَ بأنَّ الكريمَ لا يضيعُ، والعالِمَ لا يُنسى، والشاعرَ لا يموتُ.
إنّ شيخنا موسى بن سالم الرواحي كان من الذين لا تملكُ أن تذكرهم إلا وتبعثُ في القلبِ مهابةً، وفي النفسِ سرورًا، كان من فرسَان القوافي ، وشيوخ البيانِ، يتهادى شعرُهُ في المجالسِ كما تتهادى الطيوبُ في رياضِ الأنسِ، ويجري على الألسنِ كما تجري العيونُ في بطاحِ عمانَ، لا تُملُّ معانيه، ولا تعافُ القلوبُ ألفاظَه، وكان – مع ذلك – رجُلًا هيّنًا ليّنًا، طلقَ الوجهِ، بشوشَ الطبعِ، لا تُعرفُ له عبسةٌ في يومٍ، ولا تجهُّمٌ في ساعة.
نشأ في وادي محرم، فتشرّب من مائه عذوبة القول، ونهل من سهوله رقّة البيان، فكان شعره صورةً لعمان، لا يُذكرُ إلا ذكرت به، ولا يتلوه القارئ إلا ارتسمت في عينيه جبالُها وسهولُها، وسهوبُها ووديانُها، فما تغنّى إلا بها، ولا مدحَ إلا رجالَها، ولا عاتبَ إلا في سبيلِها. وإذا تكلمَ عن الزمانِ، تكلمَ عنه بعينِ المُجربِ الحاذقِ، وإذا وصفَ الحبَّ، وصفهُ بقلبِ الحكيمِ العاشقِ، وإن رثى، رثى بدموعٍ ناطقةٍ، وأحزانٍ عابقةٍ.
وكيف لا يكون كذلك، وهو ابنُ الشعرِ الذي يأبى إلا أن يكون خالِدًا، وابنُ البيانِ الذي لا ينطفئُ نورُه، وابنُ البلاغةِ التي تُغذّي الأرواحَ، كما يُغذّي الغيثُ الأرضَ؟ وإنّ الرجلَ ليُعرفُ بمعدنه، والإناءُ بما فيه، فما عُرف عن الرواحي إلا الصدقُ والصفاءُ، وما سُمعت منه إلا الكلمةُ العذبةُ، والموعظةُ البليغةُ، وما وُجد في ديوانه إلا الدرُّ والياقوتُ.
فلما كانت الساعةُ التي لا تُردُّ، وأتاه داعي الرحمنِ، لبَّى وهو قريرُ العينِ، ساكنُ النفسِ، مطمئنٌ بما قدّم، راضٍ بما كتبَ اللهُ، فكانت خاتمتُهُ كحياتهِ: خفيفةً، كريمةً، عزيزةً.
وإن كان القبرُ قد ضمَّهُ، فإن ذكرَهُ لم يُدفن، وإن كان جسدُهُ قد فني، فإن شعرَهُ خالدٌ، يردده الصغيرُ والكبيرُ، ويرويه الهاوي والخبيرُ، وتبقى به عمانُ تفتخرُ، ويظلُّ به الدهرُ يزهو، فهنيئًا له ما ترك، وحسبنا أننا به نُعزى، وعليه نترحّم، وعند الله نلتقي.
رحم الله شيخنا الجليل الأديب الأريب موسى بن سالم الرواحي، وأسكنه فسيح جنانه، وجبر قلوبَ محبيه، وألهم أهله الصبرَ والسلوان.
تلميذه المتشرب عذب بيانه غير القادر على سلوانه
حسن بن خلف بن سعيد الريامي
❤️
2