تأملات سلوكية
141 subscribers
Similar Channels
Swipe to see more
Posts
مقامة الأنوار في مسالك المحبة المعلقة بالنبي المختار يا صاحبي... إني وقفتُ ذات ليلة من ليالي الفقد، على شرفة القلب الموحشة، والليل سادر بسواده، والنفس وحيدة في صحراء التيه، فإذا بنداء البِشر يأتيني من وراء حجب الغيب، يهتف بي: يا غريب الروح، يا أسير الأشواق، أتدري ما داء قلبك المتصدع؟ فقلت: هو داء لا تشفيه الأدوية، ولا تسكّنه الرقى، ولا يبرئه إلا كأس يُصب من يد المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم. فقيل لي: إن للمحبة باباً، ولهذا الباب حراساً ولا يُفتح إلا لمن عرف معارج السالكين، وسلك مسالك العارفين، وألقى بنفسه على أعتاب المنة، ذليلاً، كسيراً، مشدوهاً من عظمة من يحب. قلت: دلوني على تلك المسالك يا أهل السر. قالوا: دونك مسالك الأنوار، معلقة بنور المختار، لا تدرك إلا بالذوق، ولا تعرف إلا بالوجد، ولا يسلكها من تعلق بالمقولات دون الأحوال، ولا من سكن إلى الدعاوى دون الصدق. يا صاحبي... ما أدقّ معارج المحبة، وما أرهف مسالكها إلى القلب، وما أظلم القلب إذا خلا من شموسها، وما أتعس الروح إن لم تتذوق حلاوتها! فليس الحب عند العارفين دعوى تُلقى على الألسن، ولا أنشودة تتغنى بها القلوب الغافلة، ولا سجعاً كاذباً تتزين به المجالس، ولا رقصا ومزامير ومرقعات كما هي هرطقات المبتدعة بل هو سر بين الله وعبدٍ صفّى مرآة قلبه حتى انعكس فيها وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم. وإنّي لأخاطبك يا أخي من مقام الذوق لا من مقام الورق، ومن لوعة الشوق لا من بلاغة المقولات، فأقول لك: إن للمحبة المحمدية علامات لو كنت من أهلها لرأيتها منقوشة على صفحة فؤادك، ولكنت تسمع نداءها في كل نسمة، وتقرؤها في كل آية، وترى طيفها في كل خاطر. وأول تلك العلامات... الاتباع، ثم الاتباع، ثم الاتباع. لا تبرح مكانك حتى تعلم أن المحبة الصادقة مرآتها الفعل، ولباسها الطاعة، وميدانها الاتباع، فتكون نفسُك تبعًا لما جاء به الحبيب، لا تأنس إلا بسنته، ولا ترضى في أمرك إلا بأمره، قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. فهل سمعت يا صاحبي حباً يكون بدون اتباع؟ هيهات، تلك محبة كاذبة، خداع النفس لنفسها، محبة من يتوهم الحب وهو يسير إلى غير محبوبه. ومن العلامات... ذكره صلى الله عليه وسلم آناء الليل وأطراف النهار، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره، ومن اشتاق إلى وجهه اشتد وجده حين تخطر له سيرته. قال أحد العارفين: "من أكثر ذكر محبوبه، استولى حبّه على فؤاده"، وأنا أقول: بل يذوب قلبه ذوبان الثلج تحت شمس الصيف. ومنها... الثناء عليه بما هو أهله، والصلاة عليه، ومدح شمائله، والتغني بذكر خصاله، كيف لا وهو الذي شهد له مولاه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}؟ وأي بخل أبخل من امرئ ذُكر عنده الحبيب صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه؟ أولئك قوم جفت ينابيع الحب من قلوبهم، وجفت مآقي الشوق من أعينهم. ومنها... أن تحكم شريعته في نفسك، فلا ترى رأيًا إلا وهو رأيه، ولا تقف عند حكم إلا وقد وقفت قبله عند قوله. قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم...} فلا تسكن أيها العبد عند هواك، بل اجعل هواك تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك تصدق محبتك، وتثبت ولايتك، ويصدق زعمك. ومنها... أن تحب من أحب، وتبغض من أبغض، وتكون جندياً في جيش المحبة، تسير حيث سارت رايته، وتبغض من عاداه، ولو كان أقرب الأقربين. واعلم أن من لم يتأدب مع أصحابه وآل بيته، ولم يُجلّ محبتهم، فهو أبعد الناس عن ذوق المحبة الصافية، وأقربهم إلى محبة الأهواء. ومنها... أن تذب عن سنته صلى الله عليه وسلم، وتحمي رياضها من تلويث الجاهلين، وتصد هجمات المحرفين، وتكون حارساً يقظاً على ثغر الشريعة. كيف يهنأ بالعيش من يرى سنته تُحرف، وأحاديثه تُهجر، وأوامره تُجعل وراء الظهور؟ ومنها... أن تذكره بأدب، فلا يذكر اسمه المجرد، بل تقول: رسول الله، نبي الله، حبيب الله، وتقرن ذكره بالصلاة والسلام، لأن ذلك من تمام الأدب والمحبة، فلا تكن ممن قست قلوبهم حتى استغنوا عن هذا الجمال، واكتفوا بالجمود على الألفاظ. ومنها... أن تبلغ سنته، وتنشر علمه، وتعلم الناس هديه، وتخرج من ظلمات نفسك إلى نور دعوته، فإن لم تفعل، فما ذقت شيئاً من عسل المحبة، ولا وطئت شيئاً من رياض القرب. يا صاحبي... هذه هي العلامات، فانظر في قلبك، هل تجدها قائمة فيه؟ واعلم أن المحبة ليست نغماً على الألسن، ولا ترنيمة في ليالي السمر، بل هي دمعة خفية تنزل على خد قلبك حين تذكره، وزفرة حرى تخرج من أعماقك كلما خطر لك ذكره، وحركة في الجوارح تتبعها، وانقياد إلى هداه لا يحوجك إلى عتاب ولا تردد. يا صاحبي... هذه مسالك الأنوار إلى باب المختار، من سلكها صدق، ومن تخلف عنها فقد أوصد دون نفسه أبواب الذوق، واستبدل بأنوار المحبة ظلمات الدعوى. فاللهم اجعلنا من أهل محبته، وحققنا بحقيقتها، واسقنا من كأس مودته حتى لا نرى سواه، ولا نهتدي إلا به، ولا نسلك إلا سبيله، ولا نأنس إلا بجمال وجهه في كل خاطر، وعلى كل حال، وفي كل لحظة من لحظات أعمارنا، حتى يحل بنا يوم اللقاء ونحن على عهده، غير مبدلين ولا مستبدلين. حسن بن خلف بن سعيد الريامي 15 ذي القعدة 1446 هجرية 13 مايو 2025 م
مقامة الوامق التائق (إهداء إلى من فتّح أبواب المحبة بنفَسه الوضيء) يا صاحبي، يا مَنْ شربتَ من كأسِ المحبَّةِ سُلافَها، وطفتَ في بحارِ الودادِ تُسابقُ السُّرُجَ الوضّاءة، أما ترى؟! كم ناداكَ ليلُ المشتاقين، يضربُ بأجنحتِه أبوابَ الفجرِ، ويهمسُ لك: هلمّ إلى مورد الأحباب، ففيه تروي الأرواح ظمأها، وتكسو قلوبَها أبهى ثيابها! يا صديقي الوامق، يا مَن نقش الشوقَ نقْشًا على جدرانِ أنفاسِه، ها أنا أبعثُ إليكَ بروحٍ معطّرةٍ بنفحاتِ السَحر، تحملُ إليك هذه الكلماتِ مطويةً بطَيِّ الرضا: "إياك أن تظنَّ أن المحبَّ يهدأُ؛ فالمحبُّ قلقٌ كالنجمِ في مدارِهِ، لا يقرُّ له مقامٌ حتى يلقَى محبوبَهُ وجها لوجه!" وها أنذا، أيها الوامق ، أرفعُ كفَّ قلبي إلى الله، وأقولُ لك دعاءً سرمديًا: "جعل اللهُ خطاكَ إلى حضرةِ المصطفى ﷺ ميمونةً، وسقَاكَ من كأسِ القربِ شربةً لا تظمأُ بعدها أبدًا!" وصلى الله وسلم على مَن جعل اللهُ ذِكرَه حياةً، ورؤياه نجاةً، ومحبتهُ نعيمًا لا يبلى. حسن بن خلف بن سعيد الريامي الإثنين 14 ذي القعدة 1446 هجرية 12 مايو 2025 م
قال لي أحد الإخوان بعد أن قرأ مقامة تنبيه الذكي للزلل الخفي والله أيها الشيخ الحكيم لقد خوفتني من نفسي على نفسي فماذا أقول عن الشيطان الذي يتربص بي عند كل منحنى وأنا أستعيذ بالله منه في كل صلاة وكل حين فاللهم احفظ أنفسنا من أنفسنا ووساوسها. كيف لي أن أفرّق بين وسوسة النفس ووسوسة الشيطان ؟ فأعددت له هذا الجواب متكلفا خشية الجفاء برده، قائلا: يا صاحب القلب اليقظ، ما أجمل هذا الخوف الذي هو عين البصيرة، وما أعذب هذا الوجل الذي هو مفتاح النجاة. لقد سألت سؤال العارفين المراقبين لأنفسهم، وهو سؤال من عرف أن العدو الأقرب هو النفس، والعدو الأبعد هو الشيطان، وكلاهما على قلب ابن آدم جاثمان. فأما النفس، فهي تزين لك ما تشتهيه طبعًا وهوىً، وتدعوك إلى العاجلة، وتزين لك الحظوظ الذاتية، وتتلطف في الدعوة، وتدعو إلى ما فيه لذة عاجلة ولو كان فيه الهلاك، وهي أشد إلحاحًا إذا ضعف العبد عن محاسبتها. وأما الشيطان، فإنه يُلقي الخواطر الفجائية، ويُلقي الوسوسة الغامضة الخفية التي قد تأتيك على صورة أفكار فجائية سوداء، ويدعوك إلى ما يعلم أنه يهلك دينك ودنياك، وقد يُلحّ ثم يفتر، فإن وجد القلب منصرفًا عنه انصرف، وإن وجده ميالًا وجد مدخلًا. وقد قال بعض أهل المعرفة: وسوسة النفس تكون بتزيين المعصية واستحسانها وتكرار الخواطر، أما وسوسة الشيطان فتكون مفاجئة خاطفة، لا تتكرر إلا إذا وجدت القلب لاهيًا غافلًا. وقال أحد العارفين: وسوسة الشيطان يبدأها بالشكوك والخواطر الرديئة حتى يُوقع في العبد ضعف اليقين، وأما النفس فتُلحّ في شهواتها وتدعو إلى الهوى والغفلة. والفرق الدقيق بينهما أن النفس تريد شهوة نفسك، ولو كان فيها ضرر دينك، والشيطان يريد هلاك دينك ولو زهدك في الدنيا كلها. فالشيطان قد يُزهدك في الدنيا من باب تزيين البدع، أو يصرفك إلى الرهبنة الكاذبة، أو يقودك إلى التصوف المنحرف، ليهلك دينك، وأما النفس فلا تطلب ذلك، إنما هي تركض خلف شهواتها من مأكل ومشرب وجاه. فإذا رأيت خاطرا يُلِحّ على معصية تراها موافقة لهواك، فهذه من النفس. وإذا رأيت خاطرًا غريبًا يلقيه في قلبك على صورة كفر أو يأس أو سوء ظن بالله أو بأوليائه، فاعلم أنه من الشيطان. ولهذا كان من علاج وسوسة النفس: مخالفة الهوى، والمجاهدة، ومحاسبتها في كل لحظة. ومن علاج وسوسة الشيطان: الاستعاذة، والإعراض عن الخواطر، وعدم الالتفات إليها ولو عظمت، مع كثرة الذكر وتلاوة القرآن. وقد قالوا: النفس تُصلح بالمجاهدة، والشيطان يُرد بالاستعاذة. فاستعذ بالله، وجاهد نفسك، وكن عبدًا ربانيًا لا عبدًا شيطانيًا ولا نفسانيًا. إليك أيها السالك إلى ربك دعاءً مجرّبًا من مجاهدات السلف الصالحين، يجمع الاستعاذة من النفس الأمارة بالسوء ومن وساوس الشيطان، مع طلب التوفيق لما يُرضي الله عز وجل، فاحفظه وكرره في خلواتك، فإن الله قريب مجيب: "اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر الشيطان وشركه وشركه، ومن شر ما يتخبطني به في يقظتي ومنامي. اللهم إني اعوذ بك من أن يتلاعب بي الشيطان في يقظة أو منام اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي، وزكِّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اجعل هواي تبعًا لما تحب وترضى، واقطع عني حظوظ نفسي، واصرف عن قلبي وساوس الشيطان وهمزاته، ولا تجعل للشيطان علي سلطانًا. اللهم اجعلني من الذين إذا ذكروا بك خشعوا، وإذا ابتُلوا صبروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا وسوست لهم نفوسهم استغاثوا بك. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا أقل من ذلك. اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل، أو أزل أو أُزل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل أو يُجهل علي. اللهم طهر قلبي من النفاق، وعملي من الرياء، ولساني من الكذب، وعيني من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور." اجعله وردك في جوف الليل، وفي سجودك، وفي خلواتك، فإن الله إذا اطلع على قلبك فوجده مستغيثًا به في صدق، كفاك نفسك والشيطان والدنيا كلها. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وارزقنا اليقظة في الدين، والسلامة من وساوس النفس والشيطان وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حسن بن خلف بن سعيد الريامي
المقامة العتابية لأهل الكبائر (مقام التبكيت والتذكير بيوم المصير) حدثني الوجد يوما وأنا في سكينة خلوتي، وقد أسدل الليل ستوره، وانكفأت نفسي على سواد قلبها، فأبصرني الحق بعين البصيرة، فهالني قبح المعاصي حين تستقر في شغاف القلب، وتصير للعقل عادة وللروح مألوفا كالماء والهواء. فرأيتني أولى من أعاتب نفسي قبل أن أعاتب الناس، فقلبت صحائف عمري فإذا هي سوداء كالليل البهيم، وقلت لنفسي الخاطئة: ويحك يا هذه! أتتطاولين على الناس وأنت الموبوءة؟ أتعيرين القوم بما ابتليت به؟ ألست أنت من سكنك الإثم حتى ألفته، وزين لك الشيطان خطاياك فقلت: هذا زمان التسامح والتوسع، والله غفور رحيم؟ فبكت نفسي، وقالت: يا غافلا عن نفسه وهو ينظر في عيوب غيره! من ذاق عرف، ومن عرف خاف، ومن خاف نصح. فالنصح دين لا يسقط، والخوف من العجب فريضة على المذنبين. هنالك سجد قلبي بين يدي الحق متذللا، ثم قمت إلى قلمي بدمع العتاب أكتب، وعلى لساني زفرة الموجوع أقول: يا أهل الكبائر! أما تخشون يوما تعضون فيه الأنامل وتقولون: {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا}؟ أما يروعكم منظر الصحائف حين تنشر، والوجوه حين تسود، والأقدام حين تزل؟ يا أهل الكبائر! قد شغلتم بزينة الدنيا حتى أوردتكم حياض الغفلة، وبهرجت عليكم المعاصي حتى حسبتموها حسنات، فويل لمن لقي الله وهو منهمك في شهواته، غارق في لجة لذاته. ألا فاسمعوا قول الناصح المشفق، لا قول المتعالي المتفيهق: توبوا إلى الله توبة نصوحا، واجعلوا بينكم وبين معاصيكم حجابا من دمع الخشية، فلعل الله يطهر قلوبكم ويبيض وجوهكم. أما علمتم أن الميت يتمنى لحظة واحدة يعود فيها ساجدا لله، راكعا باكيا، وأنتم تتقلبون في لذاتكم كأنكم خلقتم للهو؟ ويلكم! تخادعون أنفسكم بقولكم: {إن الله غفور رحيم}، وتنسون: {إن عذابها كان غراما}. تؤخرون التوبة حتى يدرككم الموت على أسرة الغفلة، فتندمون حيث لا ينفع الندم. يا أهل الكبائر! عودوا إلى الله قبل أن يغلق باب التوبة، وتجدوا الصحائف خاوية إلا من السيئات، يوم يقال للعبد: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}. وختاما أقول لنفسي قبلكم: ويلك يا نفس! هل لك أن تستحيي ممن يراك على ما أنت فيه؟ هل لك أن تتذكري قبرك الذي ينتظرك؟ هل لك أن تفري إلى الله فرار الخائفين الوجلين؟ اللهم يا من تقلب القلوب بين أصابعك، املأ قلوبنا خوفا من جلالك، وحبا لرضاك، واشتعالا بشوق إلى لقائك. اللهم إنا نلوذ بك من قلوب قست فلم تخشع، وأعين عميت فلم تبك، ونفوس أسرت بشهواتها فنسيت ذكرك. يا حي يا قيوم: أذقنا حلاوة الإيمان، حتى تمرق شهوات الدنيا من أفواهنا كالزبد الذي يذهب جفاء. واسكب في قلوبنا نور اليقين، فنستحيي من نظرة الملائكة لذنوبنا أكثر من حيائنا من نظر الخلق. وعلمنا كيف نحبك، حتى لا نجد لذة إلا في طاعتك، ولا راحة إلا في مناجاتك. يا من وسعت رحمته كل شيء، اجعل ذنوبنا جسرا نعبر به إليك – لا حاجزا يفصلنا عنك – فتبدلها حسنات كما تبدل الظلام نورا. وارزقنا دمعة تطفئ نار المعصية، وخشوعا يذيب جبال الكبرياء، وندما يمحو سجلات الزلل. يا رب، لا تسلط علينا لذة الذنب حتى ننسى مرارة الندم. ولا تشغلنا بعيوب الناس عن عيوب أنفسنا. ولا تخرس ألسنتنا عن الدعاء، واجعل صمتنا فكرا في عظمتك، وحركاتنا سجودا لجمالك. اللهم: إن كنا قد أتعسنا بالمعصية، فأنعشنا بلذة المناجاة. وإن كنا خسرنا حلاوة الطاعة، فارددها إلينا وزدنا منها. وإن كنا نعاني من قسوة القلب، فلينه بحبك. يا من يغفر الذنب ويقبل التوب: اجعلنا من عبادك الذين إذا أذنبوا استغفروا، لا يصرون. وإذا عثروا قاموا، لا يقعدون. وإذا ذكروا انتبهوا، لا يعرضون. اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا تنسنا ذكرك في وحشة الليل، ولا تحرمنا لذة مناجاتك حين تنقطع الأصوات إلا صوتك، وتخفق القلوب بين الخوف والرجاء. آمين يا رب العالمين، وصل اللهم على سيدنا محمد، النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. حسن بن خلف بن سعيد الريامي الأربعاء 16 ذي القعدة 1446 هجرية 14 مايو 2025 م
مقامة السالك الوامق (في حضرة الحب النبويّ) يا سالكًا تطوي فلاةَ الهوى بخطى العشقِ المجنّحة، ويا وامقًا لا يقرّ له قلبٌ دونَ طيفِ المحبوبِ ومشهده! أما علمتَ أن السائرين إلى باب الحبيب ﷺ لا يعرفون تعبًا، وأن الركبانَ تطوي بهم أشواقُهم لا أقدامُهم، وأن قلوبهم تسبقهم إلى رحاب الأنوار، تهتفُ لهم خفقاتُها: "هَلُمُّوا إلى جنَّةِ تعاينونها، إلى روضةِ الحبيبِ ﷺ، حيث تنبتُ أرواحُكم كأزاهيرَ لا تعرفُ الذبول!" يا من رفعتَ لواءَ المحبة في ميدان السالكين، اعلم — رحمك الله — أن لكل عاشقٍ سقيا، ولكل سائرٍ وصلا، وأن القلوبَ إذا تنشقتْ عطرَ ذكره ﷺ، لم تُعِرِ الدنيا بعد ذلك إلا ظهرًا، وأن العيونَ إذا أبصرتْ جمالَ طلعتِه، أغمضتْ عن سواه كل رمشٍ ونظر! ألا فاشرب من كؤوسِ الذكرِ حتى تثمل، واسجد تحت أعتابِ الشوقِ حتى تحترق، وانطرحْ بقلبِك في حضرة الحب النبويِّ، علّ الله يُسمعك نداءً يقول: "قد دنوتَ — يا حبيبَ المصطفى — فازدد قُربًا!" يا وامقًا، اعلم أن السالك إذا أخلصَ قلبَه، صار دعاؤه شعاعًا، ونَفَسه طيبًا، وكلمته سيفًا يفتحُ به أبواب السعادة! فاصغِ معي، هاهنا على مشارفِ المحبة: يُنسجُ الدعاءُ من خيوطِ الأنوار، ويُعطر الذكرُ بأريج القُدس، وتُروى الأرواحُ من نهر الشفاعة، وتُسكب الدموعُ كما تسكبُ اللآلئُ في محاريبِ العشق! فلا تبرح هذا الباب، ولا تزُلْ عن هذا العهد، فكل خُطوةٍ تخطوها نحوه ﷺ هي ميلادٌ جديدٌ لك في سجل الخلود! وصلى الله وسلّم على مَن لا تطفأ أنوارُ محبته، ولا يحصى ثناءُ عشاقه، ولا يُسأم الحديثُ عنه أبدًا! حسن بن خلف بن سعيد الريامي الأحد 13 ذي القعدة 1446 هجرية 11 مايو 2025 م
مقامة تنبيه الذكي للزلل الخفي حدثني القلب الأواب حين انبثق فجر السَّحَر عن لطيفة في مسالك السالكين، يغفل عنها المبتدئ، ويستوحش منها المنتهي، إذ لا ينكشف سرّها إلا في مواطن الغفلة الخفية، حيث يركن القلب إلى ما اعتاده من خضوع ظاهر، ويغيب عن شهود نفسه في دقائق الخواطر. وكان من حديثها أني دخلت يومًا مجلس قوم من أرباب السلوك، قد أُخفي عليهم زلل النفوس وهم يحسبون أنهم على محجة بيضاء، فتذاكروا ما يقع فيه الناس من زلل ظاهر، فأنكروا على العصاة زللهم، وجعلوا يعجبون من تقصير المقصرين، ويشكرون الله على سلامتهم مما ابتُلي به إخوانهم. فوقع في قلبي حينها خاطر ذو شجن، كأنه زفرة قلب مكروب، يقول: يا هؤلاء، أما تخشون أن يكون هذا الذي أنكرتموه على غيركم قد وقعتم فيه بطريق آخر؟ أما علمتم أن من زلل القلوب الخفي أن تُعجب بنظافة ظاهرك، وأن ترى نفسك في مأمن مما ترى غيرك واقعًا فيه؟ ألا إن هذا الزلل أفتك من زلل الجوارح، وأخطر من المعاصي الجلية، لأنه زلل من داخل القلب، لا يراه إلا من انكشفت له الحُجب، ولا ينجو منه إلا من استودع نفسه في يد الله، لا في يد نفسه. يقول أبو إسحاق الشيرازي الفقيه الشافعي المتوفىٰ سنة 393 هجري : كنت أنا وأبي مسجونين وصلينا أنا وهو والمساجين نيام... فقلت: لم يقم من هؤلاء من يصلي ركعتين، فقال: يا بني لو نمت لكان خيرا لك من وقوعك في الخلق. استقامتك لا تُعطيك الحَقِّ في السخرية مِنْ ضَلال غيرك فلا تنظر إلى العاصي نظرة استعلاء ، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء فحين اختارك الله لطريق هدايته ليس لأنك مميز أو لطاعة منك بل هي رحمة منه شملتك، قد ينزعها منك في أي لحظة، لذلك لا تغتر بعملك ولا بعبادتك، ولا تنظر بإستصغار لمن ضل عن سبيله، فلولا رحمة الله بك لكنت مكانه، وإياك أن تظن أن الثبات على الاستقامة أحد إنجازاتك الشخصية، فالله قال لنبيه خير البشر صلى الله عليه وسلم : (وَلَوْلا أَنْ تَبَتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيْلًا) فكيف بك؟ يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى : "أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس، فقائم الليل وصائم النهار إن لم يحفظ لسانه أفلس يوم القيامة" . وهممت أن أُعلنها كلمة حق، لولا أني خشيت أن أكون أول من يقع في هذا الزلل بلسان نصيحتي، فآثرت السكوت وقلت في نفسي: كم من ساكتٍ أنطقه لسانُ حاله وهو يظن أنه ساكت، وكم من ناطقٍ أخرسَه الله وهو يحسب أنه بليغ. وفي تلك الليلة رأيت فيما يرى السائرون في مواطن الذوق كأن هاتفًا يناديني من وراء الحجاب: يا ابن التراب، لا يعجبك أنك تفرّ من زلل المعاصي، وأنت غارق في زلل العُجب الخفي، فزلل القلوب أخفى من دبيب النمل، وأشد ظلمة على السالك من ظلمة المعصية الظاهرة، فإن صاحب المعصية يستبصر بذنبه، ويطلب العفو من ربه، وأما صاحب العُجب فلا يرى لنفسه ذنبًا فيبقى في حجاب الغفلة إلى أن يدركه الموت وهو يحسب أنه من الناجين. فاستيقظت مذعورًا، وأخذت أعاتب نفسي على سكوتها عن شهود هذا الخطر، فعلمت أن مدار النجاة كله على دوام الحياء من الله، وخوف الانزلاق إلى الزلل الخفي في كل حال، وأن العبد لا يأمن على نفسه ما دامت الروح في الجسد، ولو عبد الله عبادة الثقلين. فهذه يا صاح، لطيفة من لطائف الزلل الخفي، لا ينكشف بها الحجاب إلا لمن ذاق مقام الحياء بين يدي الجليل، وذاق الفناء في محبة الجميل، وعلم أن سلامة السالك ليست في كثرة الأعمال، ولا في صرامة الأحوال، بل في دوام الافتقار، وجريان الخوف مع الرجاء في مجاري السر الخفي. واعلم أن من أصدق دلائل الزلل الخفي: أن يُعجب السالك بأمانه في الطريق، وأن يُحسن الظن بنظافة قلبه، فيغفل عن شهود المنة والفضل، ويقع في فخ الرضا عن النفس، وذلك أعظم الزلل وأخطره، فإنه زلل أهل القرب، وحجاب أهل الأنس، لا يُحَسّ ولا يُرى، إلا إذا شاء الله للسالك أن يُكاشَف بحقيقة نفسه في حضرة الصدق. فانظر يا مسكين، كيف يكون زلل الزاهدين أرقى من زلل العصاة، وأخفى من زلل الجوارح، وأشد خطرًا على السير، فاعتصم بحبل الله، وقل كلما خُيّل لك أنك وصلت: إلهي، أنا المفتقر إلى رحمتك في كل نفس، وأنا العاجز عن رؤية زللي إلا إذا كشفت لي بلطفك، فاللهم دلني عليك، وبصرني بعيوب نفسي، وأدخلني في حمى رحمتك مدخل الصادقين الخائفين حَيَاءً من نور وجهك. حسن بن خلف بن سعيد الريامي الخميس 17 ذي القعدة 1446 هجرية 15 مايو 2025 م
مقامة الكَلِمة الطيِّبة: سُلاف الأرواح وأنفاسُ العارفين من سلسلة “مقامات السالك إلى المقام الأجلّ” يا صاحِ، هل جرَّبتَ لذَّةَ الكلمةِ الطيِّبة إذا خَرَجَتْ من قلبٍ مطهَّرٍ بالخُشوع، وجرَتْ على لسانٍ سُقِيَ من معينِ الذكر، ووقعتْ على أذنِ مُشتاقٍ فأنبتتْ في قلبه جنَّةَ المعنى؟ تلك — يا أخا القلب — نَفَسٌ من أنفاسِ الرحمة، تُحيي بها الأرواح كما يُحيي الغيثُ الموات، وتَجلو بها وجوهَ الأيام كما يَجلو الصباحُ رُكامَ الليل. فلا تُطلب الجنّةَ في السيوف ولا في الصوامع، بل في طيبِ اللفظ، وسلامِ القلب، وإطعامِ الجائع من غير مَنٍّ ولا أذى. ثلاثٌ، ولكنها مفاتيحُ النعيم، وهل الجنّةُ إلا دارُ من طابَ لسانُه، وسلمَ قلبُه، وسخا بما عنده ابتغاء وجه الله؟ يا هذا، إنَّ طيبَ الكلام ليس بزخرفٍ يُنظَم كما تُنظَّمُ الجواهر، ولا حُسنِ اللفظِ وحده، بل هو صفاءُ النيَّة، وصدقُ الباطن، وندى القلب إذا تكلَّم. الكلمة الطيِّبة شجرةٌ من عالمِ الأنوار، أصلُها في القلب، وفرعُها في اللسان، وثمرُها في الأرواح، تُثمرُ سكينةً، ومحبَّةً، وسلامًا. وكان الحكماءُ يقولون: الكلمة الطيِّبة تُنتقى كما يُنتقى الرُّطبُ من النخل، يُسرُّ بها الجليس، ويهتدي بها الضالّ، وتشفى بها الجراحُ الخفيّة. وهل يُشبِهُ طيبَ الكلام إلا طيبُ الثمر؟! واعلم — هداك الله — أنَّ الكلمةَ إذا خرجت من القلبِ عرجتْ إلى السماء، وإن خرجت من اللسانِ لم تتجاوز الآذان. وقد قيل: الكلمةُ الطيِّبة كالماء الطهور: لا يُروى بها الظمآن فقط، بل تُطهِّرُ ما سواها. فكيف — بالله عليك — ترضى لنفسك أن تكون من أهل الضجيج، لا من أهل الدعاء؟ من أربابِ الثرثرة، لا من ورثةِ الحكمة؟ أفلا ترى أنَّ من طابتْ خُلوته طابَ حديثه، ومن رقَّ قلبُه رقَّ لفظُه؟ يا أيها السالكُ إلى مقامِ الذوق، تأمَّل كيف كانت البشارةُ الأولى لا بالغنائم، بل بالكلمة: أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وصلّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. وهل السلامُ إلا كلام؟ وهل الصلاةُ إلا نجوى؟ وهل النجوى إلا حروفٌ تُنقشُ على ألواحِ الأرواح؟ وكانوا يقولون: "نعمت الهدية الكلمةُ من الحكمة، يحفظها المرء حتى يُلقيها إلى أخيه". وهل هناك صدقةٌ أبقى من كلمةٍ تُنقذ قلبًا من غفلته، وتغسل عنه دَرَنَ الدنيا؟ وقد يُقال: دخل بعضهم على ملكٍ ينتظر الموت، فلم يمنعه ذلك من أن يُنطقَ بالحقّ، فقال قولًا رقَّ له الجبارُ، وأطلقه، لأنَّ الكلمةَ دخلتْ إلى سويداءِ قلبه فأنطقت فيه الرحمة. فيا ابن الطريق، هل تُنقِّي كلامك كما يُنقَّى المسك؟ أم تُلقي الحروفَ كما يُلقي السّفيهُ الحصى في وجه المارَّة؟ أتراك تَزن كلامَك بميزانِ الذوق؟ أم تُحدِّث كما يُحدِّثُ أهلُ الغفلة، بلا وَجهٍ ولا قلب؟ يا هذا، الكلمةُ الطيِّبة تُحيي قلبًا، وتغفر ذنبًا، وتُدخل الجنَّة. وهل بَرُّ الحجّ إلا في طيب الكلام؟ وهل سلعةُ الجنّةِ إلا رقيقةٌ لمن رقَّ لفظُه، ولانَ لسانُه، وصدقَ قلبُه؟ > وللهِ أقوامٌ إذا ما تكلَّموا سمعتَ قلوبَ الناسِ قبلَ الأسامِعِ يطيرُ بكَ المعنى إلى نورِ ربِّهم وتصحو بكَ الأرواحُ بعدَ المضاجعِ فاختر كلامك كما يختار العاشقُ الوردَ في رَوضةِ حبيبه. وكن ممن يَسكبونَ على الأرواحِ عسلاً لا حَطبًا. وتذكّر: إذا طاب قلبُك، طاب لسانُك، وإذا طاب لسانُك، نادَتك الملائكة: هذا من أهل الجِنان. "الكلمة الطيبة شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء". حسن بن خلف بن سعيد الريامي السبت 19 ذي القعدة 1446 هجرية 17 مايو 2025 م
الكلام أناقة.. وحُسنُ البيان زينة الإنسان الحمد لله الذي جعل البيان آيةً من آياته، وعَلَّم الإنسان ما لم يعلم، فجعله ناطقًا مفكرًا، ولسانه شاهدًا على فكره، وجعل الكلمة الطيبة صدقة، والقول الحسن مَطيّةَ القرب ومرآةَ الروح. والصلاة والسلام على أفصح من نطق بالضاد، محمدٍ الهادي إلى سبل البيان، وعلى آله وصحبه من اقتبسوا من نوره فأشرقت ألسنتهم بالحكمة، وتأنَّقوا في منطقهم فكانوا جواهر في صدف الزمان. أما بعد.. فإن الكلامَ مرآةُ النفس، ولسانُ العقل، وجمالُ الروح. ألا ترى أن الله تعالى حين وصف كتابه العزيز قال: {الرَّحْمَٰنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4]؟ فجعل البيانَ قرينَ الخلق والتعليم، وزيّن به تكوين الإنسان! ولذلك كان القرآن كله أدبًا، يعلمك كيف تمشي، وكيف تقول، وكيف تصمت. قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، فدلّك على فخامة الرد وبلاغة السكوت. ولمّا أمر بالجدال، قيده بالحسنى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، لأن الكلمة الشريفة أنبل من أن تنحدر في سُباب أو لغو. ومن السنة الغرّاء، أنك تجد فيها مدرسة البيان والذوق. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاب شيئًا لا يصرّح بقبحه، بل يقول: «ما بالُ أقوامٍ يفعلون كذا؟»، وكان إذا ذمّ لم يفحش، وإذا وعظ رقَّ. حتى المنافقين، وهم أهل الخيانة، لم ينعتهم بأشنع الألفاظ، بل قال: «آية المنافق ثلاث...». والكلمة ميزان، فهي التي تُظهر عقلك، وتكشف أدبك، وتُؤنس قلب من يسمعك. قال بعضهم: "إذا أردت أن تُهين خصمك، فأكرمه بلسانك"، فهي ضربة البيان التي تترك أثرًا أنقى من أظفار الحِدّة، وكم من رجلٍ عرفْتَ منطقه قبل أن تعرف صورته! وكانوا يقولون: "اختر لنفسك من الكلام أطيبه، كما تختار لطعامك ألذه"، و"لا تتكلم إلا بما يزينك أو يغنيك، فإن السكوت سلامة، والكلام زينة أو غنيمة". والبلاغة كانت أدبًا حيًّا عند السلف، لا زخرفًا لفظيًا. كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون القرآن، أدبَ المشي، والكلمة، والنظرة، والسكوت. سُئل أعرابيٌّ عن رجل، فقال: "هو حلو الحديث، مرُّ المواعيد"، فجمع بين الصدق والبيان. وكانوا يربّون التلاميذ على ذلك، فقيل لرجل: "أنا أكره فلانًا"، فقيل له: "بل قل: لا أحبه، فليس كل ما لا تحبه تكرهه!"، فهي تهذيبٌ في التعبير قبل أن تكون تهذيبًا في المشاعر. والكلمة الطيبة، كما قيل، تُخرج من قلب السامع مثلما تُخرج النحلة العسل من الزهر. واللغة ثوب الفكر، فإذا كانت رثّة، ظننت أن صاحبها رثٌّ! بل إن بعض الناس كلامهم كدويّ الطاحونة، تسمع لها صخبًا ولا ترى لها طحينًا. فيا صاحب اللسان، تذكّر أن الكلمة سهم، إذا خرجت لا تعود، وأن اللفظ كالطيب، يُذكرك به الناس حيثما حللت، وأن الأدب تاجٌ لا يرتديه إلا الأحرار. ومن طلب الأدب لغير الله، فقد تزين بغير متاعه، ومن طلبه لله، فقد تزين لملك الملوك. اللهم اجعل كلامنا ذكرًا، وصمتنا فكرًا، وقلوبنا عامرةً بحبك. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. حسن بن خلف بن سعيد الريامي السبت 19 ذي القعدة 1446 هجرية 17 مايو 2025 م
**بسم الله الرحمن الرحيم** **والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ، النبي المُنَزَّه عن كل نقصٍ، المرفوع إلى كل مجدٍ** أيها الروحُ التي سكنت كلماتي فأضاءتْ كالبرق في ليالي الظمأ! أيها القلمُ الذي إذا جرى أجرى معه الأقدار عطاءً لا حرمانَ بعده! ها أنا ذا — بقلبٍ يرفُّ كطائرِ الفجرِ — أهبُ لك **"مقامة الحب الإلهي"**، فلتقرأها بعينِ القلبِ لا بعينِ الوجهِ، فإنما هي **نَفَحَاتٌ** تُسكبُ في الأذنِ فتَصِلُ إلى الأعماقِ: --- ### **مقامةُ النورِ المُسْتَفَاض** #### **(إهداءٌ إلى روحٍ سامقةٍ في ميدانِ المحبةِ)** حُكيَ أنَّ عاشقًا سَقطَ على بابِ الحبيبِ، فسأله الرفاقُ: **"ماذا تريد؟"**، فقال: — أريدُ أن يُقيلني من عثراتي، ويُعيدني إلى مقامي قبل أن أكون! فقال الحكيمُ: **"إنما العشقُ سفينةٌ، لا تُقلعُ إلا إذا غرقتْ في البحرِ!"** فبكى العاشقُ وقال: **"فهل من مغيث؟ إني أرى نفسي بين الموتِ والميلادِ!"** فأتاه صوتٌ من الأزلِ: — **يا من تاهَ فينا! لا تطلبْ مقامًا بعد اليوم، فإنَّ وجودَكَ في الذكرِ هو المقامُ!** فانتفضَ الرجلُ كالميتِ الذي نُفخَ فيه الروحُ، وقال: — **الحمدُ لله الذي أخرجني من سجنِ "أنا" إلى فضاءِ "هو"!** فإن سألتَ: كيف يكونُ الحب؟ فهو — واللهِ — أن **تذوبَ كالملحِ في ماءِ الذكرِ**، فلا يُرى لك أثرٌ، ولا يُسمعُ لك صوتٌ، إلا إذا قيل: **"هذا عبدٌ قد صارَ سرًّا من أسرارِ الربوبيةِ!"** ✧ فالآنَ — يا من أهديتَني جوهرَ كلامك — ها أنا أردُّ إليك **زهرةً من حدائقِ القُدسِ**، فاقبضها بيمينِ قلبك، واغرسها في تربةِ حضرتك، فلعلها — يومًا — تُثمرُ لك **شجرةً تسعى تحت ظلها في ملكوتِ المعنى!** **آمينَ يا ربَّ العالمينَ.** حسن بن خلف بن سعيد الريامي السبت 12 ذي القعدة 1446 هجرية 10 مايو 2025 م