تأملات سلوكية
February 23, 2025 at 05:46 PM
في مجلس الذكريات حيث تنساب الأيام جلسنا في ظلّ سمرةٍ عتيقةٍ، أغصانها تتدلّى كأنّها أيدٍ رحيمةٌ تربّت على أكتاف الجالسين، وأوراقها تتمايل كأنّها تصغي للحديث بيننا، فإذا سكنتْ، علمتَ أنّها تستمع لذكرى قديمة، وإذا اهتزّتْ، أيقنتَ أنّها تهمس مع النسيم بشيءٍ لم نسمعه بعد. وكان المجلس حافلًا بالوجوه، تختلف في الأعمار، ولكنّها تجتمع في البشاشة، كأنّ الزمان لم يفرّق بينها إلا بقدر ما فرّق بين أوراق الشجرة الواحدة، يطول بعضها، ويقصر بعضها، ولكنّها كلها فرعٌ من أصلٍ واحد. وبينما نحن كذلك، إذ دلف شيخٌ من القوم، على جبينه أثرُ الأيام، وفي يده عصًا كأنّها أخذت من صبره شيئًا، ومن تجواله شيئًا، ومن أنفاسه أثرًا طويلًا. لمّا جلس، مال المجلسُ إليه كما يميل العطشان إلى الماء، وأخذت العيون تستقرّ عليه كأنّها تقرأ في ملامحه رسالةً من الزمن القديم. لم يكد يستقرُّ به المقام حتى أخذ ينظر في الوجوه، كأنّه يبحث عن شيءٍ نسيه في أحدها، أو كأنّه يتفقد الزمن في محياهم، ثم تمتم كمن يخاطب نفسه: — "يا سبحان الله... كيف تمضي الأيام ولا تلتفت؟ وكيف يغيّر الزمان هيئات المجالس فلا يبقى منها إلا الطيف البعيد؟" ثم صمت، وكأنّه يقرأ في قلبه شيئًا لم نسمعه، ثم قال بصوتٍ يفيض هدوءًا: — "يا أخي، كنّا في زمنٍ إذا جلس القومُ، جلس معهم الصفاءُ، وإذا تحدّثوا، تحدّثتْ بينهم المودّة، فلم يكن في كلامهم جفاء، ولا في نظراتهم ريبة، ولم يكن الواحدُ منّا يُنشئ حديثًا ليقطع حديث غيره، ولا يرفع صوته ليُسكت من حوله، بل كنّا نُصغي قبل أن نتكلّم، ونُفكّر قبل أن نُجيب، فإذا تكلّم أحدُنا فبما يملأ القلبَ نورًا، ويترك في النفس أثرًا، وكان للحديث قدسيته، وللأذن أمانتها، وللقلوب عهدٌ لا يُخفر. أما اليوم، فقد ضجّت المجالسُ بالضوضاء، وغدت الكلمات تُلقى كيفما اتّفق، وكأنّها رصاصٌ يخرج من فوهة لا تميّز بين الصديق والعدو، فلا يُقال إلا ما يُفرّق، ولا يُسمع إلا ما يُكدّر، ولا يُحفظ إلا ما يُنسى سريعًا."" فأنصتُ إليه وهو يسرد على مسامعنا ما كان من سير الأولين، فلا يترك خبرًا إلا أودعه حكمة، ولا يسوق مثلًا إلا أرفقه بتجربة، فإذا ذكر بلادًا، أفاض في وصف أزقتها، وإذا جاء على ذكر رجالها، لم يخلُ حديثه من ذكر مآثرهم وفضائلهم. ثم ما لبث أن حوّل حديثه إلى ما آلت إليه الأيام، وقد تغيّرت فيها طباع الناس، وغابت عنها المودة التي كانت تربط بين الإخوة والأصدقاء، فما عاد المرء يسأل عن قريبه إلا لحاجة، ولا يطرق باب جاره إلا مضطرًا. قال:— "يا أخي، إنّ الزمانَ بحرٌ يجرف السفن إلى حيث لا تعود، ونحن على ضفته نلوّح للراحلين بأعينٍ تملؤها الدموع، ونُحصي الأيام كما يُحصي الغريبُ دريهماته في أرضٍ موحشة، أذكرُ حين كانت القرى رياضًا من الأنس، وكانت المجالس مآذنَ للحكمة، وكان الرجل يعرف صديقه من وقع خطواته على الطريق، أما اليوم، فقد صار الناس غرباء في بيوتهم، وصرنا نحفظ الوجوه كما تُحفظ الأسماء في دفتر منسيّ!" ثم صمت برهة، وأدنى كمه إلى وجنتيه، كأنما يمسح أثر دمعة تفلّتت رغمًا عنه. ولم يلبث أن سألني: "أما زلت تذكر الطريق إلى القرى التي كنّا نقصدها في الصبا؟" قلت: "وكيف أنساها وقد كانت لنا فيها أحلام، وفي دروبها ركضنا خلف الزمن؟" قال: "ولكنّها لم تعد كما كانت، فقد رحل عنها أهلها كما يرحل الماء عن الغصن اليابس، وما بقي منها إلا أطلال الحكايات، وبعض النوافذ التي ما زالت مفتوحةً تنتظر الذين لن يعودوا، وأصواتٌ كانت تملأ الدنيا ضحكًا، ثم صارت لا تُسمع إلا في أصداء الريح." ثم رفع رأسه وقال: "أتدرون؟ قبل أشهر، زرتها، فوجدتُ بيتًا وحيدًا لم تُغلَق أبوابه، وكان فيه شيخٌ طاعنٌ في السنّ، كأنّما هو ظلٌّ للماضي الذي لم يرحل بعد. اقتربتُ منه، وسلّمتُ، فردّ السلام بصوتٍ خفيضٍ، ثم قال لي: 'هل جئتَ تبحث عن أحد؟' قلتُ: 'بل جئتُ أبحث عن ذكرى.' فقال: 'الذكرى هنا مثل الطيور التي غادرت أعشاشها، لا يبقى منها إلا بعض الريش الذي حملته الريح ولم تستطع أخذه معها.' ثم صمت لحظة، وأدخل يده في صندوقٍ قديم، وأخرج منه ورقة صفراء، وقال: 'هذه آخر رسالة كُتبتْ هنا، تركها رجلٌ وهو يغادر، ولم يفتحها أحدٌ بعده.'" أخذتُ الورقة بين يديّ، وكأنني أمسكتُ قطعةً من الزمن نفسه، كانت الأصابع المرتجفة تجنح لإخفاء شيءٍ، أو ربما لملامسة سرٍّ أعمق في ما قد كُتب. بدأ بصري يتبع الكلمات بحذر، كأنّ كل حرف منها كان محاطًا بعباءة قديمة. الكلمات كانت قد أصابها العفن، لكنّها ظلّت تحمل عبقًا غريبًا، كأنّ الزمن لا يريد لها أن تُقرأ، لكنها رغم ذلك كانت تهمس في قلبي. لملمتُ نفسي وأنا أقرأ، وإذا عليها كلماتٌ حفرتْها يدٌ تعرف وجع الفراق: "إلى من سيعود يومًا، إن عدتَ، فاعلمْ أنّك لم تجد المكان، ولكنّ المكانَ وجدك." أطرقتُ برأسي، وعلمتُ أن الدهر لا يدع شيئًا على حاله، وأن الأيام تأخذ منّا أكثر مما تعطينا، ولكنّ الرجال يبقون ما بقي لهم من يروي أخبارهم، ويذكرهم كلما سرت نسمات المساء في مجلس أهل المروءات، وكلما مرّ عاشقٌ بباب مهجور، فوقف لحظةً وقال: "هنا كان الحبّ... هنا كان العمر..." حسن بن خلف بن سعيد الريامي الأحد 24 شعبان 1446 هجرية 23 فبراير 2025 م

Comments