عبدالسلام جحاف
عبدالسلام جحاف
February 22, 2025 at 04:29 PM
هل يُمكن للتزييف أن يَصنع حقيقة؟ في خضمّ معمعة التاريخ، تبرز تساؤلاتٌ تُلحّ علينا بإجابات لم تُكتب بعد: كيف تُطمس الحقائق في وضح النهار؟ كيف يُراد للوعي أن يُغيَّب، وللباطل أن يتزيّن بلبوس الحق؟ ولماذا يُعاد تدوير الكذب حتى يُصبح في أذهان البعض حقيقةً لا تقبل التشكيك؟ نعيش اليوم في عالمٍ تُصنع فيه الأوهام بمهارة، وتُدار فيه الصراعات لا على أرض الواقع فحسب، بل في العقول والقلوب. فما يُبثّ من تبريرات واهية لأفعال لا تُبرَّر، وما يُساق من حجج هزيلة لتجميل القبح، هو جزء من ماكينة إعلامية ضخمة تُتقن صناعة الضبابية، لتُضلّل البصائر وتُعيد تشكيل الإدراك وفق أجندات خفية. أفلا يعقلون؟ حين نُمعن النظر في النزاعات التي تشتعل حولنا، نجدها لا تحمل مسوّغات منطقية، بل تُدار بعقلية تجرّدت من القيم الإنسانية. فالأرواح تُزهق، والأوطان تُدمَّر، والمقدّرات تُنهب، بينما تُصوَّر الأحداث كما لو كانت قدَرًا لا فكاك منه، وكأنّ التاريخ كُتب ليتكرر في دوراتٍ من العبث الدموي. ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد حذّر من هذا الخداع حين قال: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 9). هل تنطلي الأكاذيب على أصحاب البصيرة؟ حين تفشل الحرب في تحقيق أهدافها المعلنة، تلجأ القوى الخفية إلى أساليب أخرى أكثر خبثًا، فتصنع حقائق بديلة عبر أبواق الدعاية الكاذبة والجيوش الإلكترونية الوهمية، التي تُعيد تشكيل الواقع في أذهان الناس. فتُحوّل الصراع السياسي إلى نزاع طائفي، وتُلبسه لبوس الأيديولوجيا، لتُبعد الأنظار عن المستفيد الحقيقي من الفوضى والدمار. لكن، هل يَسهل التلاعب بذاكرة الشعوب؟ قد ينجح التضليل لبعض الوقت، لكنّه لا يصمد أمام بصيرة الشعوب الواعية. فالحقيقة، وإن غُيّبت، لابدّ أن تتجلّى، كما قال الله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ (الأنبياء: 18). في اليمن، على سبيل المثال، لم يعرف الناس الصراعات الطائفية والمذهبية إلا بعد أن حاولت القوى الخارجية تصديرها إليه، ومع ذلك، ظلّت هذه المحاولات تصطدم بواقع أصيل، حيث لم تكن الهوية اليمنية يومًا رهينةَ تصنيفات مصطنعة. فما الذي يحمي الشعوب من الضياع وسط زيف الدعايات؟ إنّه الوعي، تلك القوة الخفيّة التي تمنح الإنسان القدرة على التمييز بين الزائف والأصيل. هو الحكمة التي تمنع العقول من السقوط في فخ التضليل، وهو الدرع الذي يحفظ الأمم من أن تُصبح وقودًا لمعارك لا تخدمها. فالوعي ليس ترفًا، بل سلاحٌ في مواجهة الحروب التي تُشنّ على الإدراك قبل أن تُشنّ على الأوطان. وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ (الإسراء: 36)، ليؤكّد أنّ من لا يتبصّر بالحقيقة يقع ضحيّةً للخداع، ويُسأل عن تبعيّته العمياء. الحق يعلو ولا يُعلى عليه قد تشتدّ المحاولات لطمس الحقيقة، وقد يُبذل الكثير لترسيخ الأكاذيب، لكنّ الشمس لا تُغطّى بغربال، ولا يُطفأ النور في القلوب التي تؤمن بالحق. قال الله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء: 81)، لتبقى هذه الآية دستورًا لكل من يُدرك أنّ الباطل مهما انتفش، سيظلّ زائلًا، وأنّ الحقّ هو المنتصر ولو بعد حين. فهنيئًا لمن تحصّن بالحكمة، وسلِم من الوقوع في أفخاخ التزييف، واستمسك بميزان العدل والإنصاف، فإنّ الله لا يُضيّع أجر الصادقين. عبدالسلام جحاف عضو مجلس الشورى التاريخ: 22 فبراير 2025
👍 ❤️ 3

Comments