فكر.. نهضة..
فكر.. نهضة..
January 31, 2025 at 06:07 PM
{ وَهُزّي إليكِ بِجذْعِ النَّخلَة } .. حينَ يتبدّى العَجز الإنسانيّ كعُذرٍ قاهر .. يأتي المَشهد القرآني جواباً واضحاً لكل قدرة بشرية ؛ تَستَتر بالضّعف ، والظّرف ، وسوء الأحوَال ! فها هي السّيدة مريم - عليها السّلام - .. يقدّمها القرآن رمزاً ؛ اجتمعت فيه كل مظاهر الضَّعف البشريّ ! فهي امرأة وليسَت رجلاً .. وفي أشدّ حالات ضَعفها الجَسدي .. إذ أنّها في مخاضِها الأليم ، وقد اشتدّت عليها آلامُ الحدث القادم بكلّ تداعياته وأحزانِه ، وأرهَقت روحها مخاوف المَجهول .. ومرارة الآتي العَنيف ! وحينَ احتاجَت العَون ؛ إذا برسالة السّماء لها { وهُزّي إليكِ بجذْع النَّخلة} .. وجِذع النّخلة .. يحتاجُ في هزِّه قوّةَ عشرة رجال مُجتمعين .. ومَريم - عليها السّلام - في أعمقِ نقاط ضعْفها ؛ الجَسدي .. والنّفسي .. والعَصبي .. إذْ تثبت الدّراسات .. أنّ ألم الولادة يُوازي ألم ؛ كسر عِشرين عظمة في الجَسد .. وتوازي طَلقة واحدة في المَخاض ؛ ضغط 25 رطْلاً على عضَلات الرحم .. ناهيكَ عن الخوف الذي يجتاح قلب المَرأة ، و يستَبيح رُوحها ! في هذه السُّويعات المَعدودة من حياةِ المرأة ؛ تتمنى الأمّ الموت مِراراً .. ولكنّ مريم تمنَّته هنا لسبب إضافي ؛ أشدّ قسوة و أعظم إيلاماً .. فقد كانت مَريم ترى بعينِها زكريا ؛ وهو يجفل للمَولود بين يديها ..! وترى أمُّها التي نذَرَتها لله ؛ يغشى عليها من هَول الحَداثة ..! وتَرى علماء بَني إسرائيل ، وسدَنة المَعبد ؛ وهُم يُطأطئون رؤوسهم حياءً وَوجلاً ..! وترى نفسها ؛ لا تملك دليلاً على أنّ الطِّفل من رُوح الله ! في هذا المَوطن .. الذي تَزيغ أمَامه الألباب .. وتنهارُ له قُوى الرِّجال .. ويتَداعى فيه الألم والخَوف من كلِّ اتّجاه .. والألم إذا رافقَه الخَوف ؛ كان له مُضاعفاً .. في هذا المَوطِن .. يقول الله لِمريم { وهُزّي إليكِ بِجذْع النَّخلة } ِ .. بجذعها !! يا لله .. أكانت تملكُ مريم أن تَمسح دَمعها ؛ حتى تَقدر على هز النّخلة وجذعها !! فأيّ دلالة كُبرى .. تحمِل هذه الصّورة القرآنية ؟! إنّ الله يعلِّمنا في القرآن : أنّك تملك طاقة مَدخورة ؛ حتّى وأنت في عُمق ضَعفك ! تملك قوّة شِبه مَهدورة ؛ وأنتَ في الظّرف الأقسى من عُمرك ! أنت تَملك ما تهزّ به جذع النّخلة ؛ ولو كنتَ في كلّ صُوَرِ ألَمك ! لقدْ جعل الله مِن مريم نموذجاً ؛ اجتمعت له كلّ أسباب العَجز .. فكان الأصل ؛ أن نَرى فيها معنى الاستسلام .. ولكنّ صوت النّداء أذهَلَنا يوم قال لها ؛ { وهُزِّي إليكِ } ! { هُزّي } .. وبَعدَها ؛ { تَساقط عَليكِ رُطباً جَنيّاً } .. { هُزّي } بما خبّأ الله فينا من قوّة الانبعاث .. وقوة المُقاومة .. وقوّة التّحدي .. وقوّة التَّخطي للآلام ! وحينَها .. تَساقَط عليكَ الخَير جنيّا ! وصدَقَ إبن القيم يوم قال : ( لو أنّ رجُلاً وقف أمامَ جبلٍ ، فعزَم على إزالته ؛ لأَزاله ) !

Comments