
نُطق الخيال.
February 16, 2025 at 10:00 PM
عزيزتي سارة، تحية طيبة وبعد:
رأيت حيرتك الشديدة وأنتِ تحاولين الإمساك بطرف خيط لتبدئي به قصتي. تريدين التحدث عن شكر النعم، عن غفلة الإنسان، عن اضطراب مشاعره عندما يفقد ما اعتاد وجوده. حسنًا، أنا سأريحك من هذا العناء، ولتكن رسالتي تحمل قصتي.
لا يوجد أفضل من شخصية البطل لوصف القصة وما حدث بها، وهذا ما سأقدمه لك في هذه الرسالة، قبل أن يسيطر المرض على ما تبقى من قدرتي البصرية.
من أين أبدأ يا سارة؟ -اغفري لي هذا التبسط في مناداتك باسمك- آه، أظنني وجدت بداية مناسبة، كان ذلك في نهاية العام الماضي، أتذكرني جالسًا في المنزل، أتحرق شوقًا لأن أسمع الآذان.. لحظات مريرة من الجوع قضيتها، وأنا أشم رائحة الطعام الزكية القادمة من المطبخ، حيث تقف أمي تعد الإفطار. لقد أصبح من نواميس منزلنا صيام الاثنين والخميس، وهو ما جعلني أستشعر قيمة الطعام. أنتِ جربت هذا الشعور وتعرفينه. اللذة التي تعتريك مع أول لقمة يمضغها فكيك، شعور الماء البارد الحبيب وهو يتدفق من فمك نحو معدتك ليرطبها بعد طول جفاف، منظرك في عين نفسك وأنتِ تنظرين لها بعين الفخر بعدما هزمت شهواتها طوال اليوم، سمعت الآذان، فجريت نحو المطبخ أكافئ نفسي بالتهام عدة تمرات، مستلذًا بطعم الفاكهة السكرية الحبيبة. ضحكات أمي وهي توصيني بالدعاء عند الإفطار، وإسراعي للوضوء ثم الذهاب إلى الصلاة في المسجد القريب. عند العودة، مع بداية الظلام، لا بد طبعًا من التعثر في هذا الحجر، الذي يغيرون مكانه كلما اعتدته.. الكثير من التفاصيل، والتي كانت تعطي لحياتي نكهتها.
اعذري لي الإسهاب في الوصف. إن حديث المرء عن حياته التي اعتادها وأحبها شيء محبب، خاصةً عندما يكون قاب قوسين أو أدنى من فقدان كل شيء.
أمام ذلك الطبيب -الذي أصبحت زيارته قدرًا لا مفر له- جلست، أنا أكره ارتداء العوينات، لذلك طوال سنوات تجاهلت أوامر أبي بزيارة طبيب العيون، غاضًا الطرف عن ضعف بصري الليلي. لاحظتُ نظراته المتوترة مع أبي، الذي هو صديق قديم - حميم كذلك- له. ورغمًا عني، تقلصت أحشائي تُرى ماذا هناك؟ ولماذا طال الأمر وتطلب فحصًا دقيقًا لقاع العين ومخططًا لكهربية الشبكية؟ أنا لست كأبي، وقد اخترت لنفسي مهنة بعيدة عن الطب ولكنني لا أظن أن حالتي من تلك الخطورة. فأنا أسير على قدمي، ومشكلتي ستكفيها عوينات طبية أو ربما جراحة تصحيح بسيطة. كانت تلك الخواطر تجول برأسي، عندما بدأ الطبيب يتحدث، ومع كلماته كانت البقعة السوداء أمام عيني تزداد اتساعًا.. لم أتوقع أن يحدث لي هذا!
أنت مصاب بالتهاب الشبكية الصباغي يا بني، وهذا مرض بلا علاج. إنه يدمر مستقبلات الضوء في الشبكية. أسبابه ولماذا أنت؟ خلل جيني له العديد من أنماط التوريث.. إنها إرادة الله ولا يستطيع أحد أن يحدد لماذا أنت ولماذا الآن. هناك عوينات متخصصة ستساعدك على الرؤية ليلًا. هل سينتهي بك الأمر إلى العمى؟ لا أحد يستطيع أن يجزم بشكل كامل متى سيحدث هذا فضلًا عن احتمالية حدوثه. لا تتهم الطب بالتقصير. أنت مبرمج وقد أكلت عقلك كل هذه التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. لقد تعلمت أن واحدًا زائد واحد دائمًا يساوي اثنين، لكن الأمر لا يسير هكذا في جسد الإنسان. إن حدود معرفتنا بهذا الكائن الخرافي المسمى الإنسان لا تزال ضئيلة، وهناك مئات الأمراض الموصوفة لا تزال بلا علاج.
سمعت مزيج الكلمات من أبي ومن الطبيب، ورحت ألهث وكأنما أركض في نفق ضيق منعدم الهواء. لماذا أنا وقد كنت طوال عمري صوامًا قوامًا عابدًا لله؟ هززت رأسي أطرد ما أفكر به. أستغفر الله ما أصعب الرضا عند وقوع المصاب.
رباه، ما أصعب هذا البلاء! إن فحوصاتي التالية توضح تطور المرض بسرعة مدهشة لم يعدها الطبيب من قبل، وقد لمح لي أن فقدان قدرتي البصرية تمامًا قد أصبح وشيك الحدوث!
رحت أسير تائهًا، ألتمس حلًا لاضطراب قلبي. ما السبيل إلى أن يرضى الإنسان على بلاء مرر طعم حياته؟ صرتُ أسترجع تاريخ حياتي، هل فعلت يومًا ذنبًا ونسيته؟ أيُمكن أن يكون عقابًا؟ إن سوداوية أفكاري لا ترحم وهي تدفعني دفعًا نحو معصية عظيمة في حق الله جل جلاله وهي سوء الظن... أعوذ بالله، يارب أعني واهدني.
أين أثر عباداتي في زيادة الإيمان؟ أين إيماني الذي ظننتُ أنه سيكون معاونًا لي في مواجهة صنوف البلاء؟ لقد أدركت متأخرًا أنني كنت أتعبد مفاخرًا بعبادتي... أصوم فلا أرَ أن الله وفقني للصوم، بل أنا قوي، هزمت نفسي واحتملت الجوع والعطش. كم من مرة نظرت إلى نفسي بافتخار وأنا أنهض من فراشي الدافئ في ليلة باردة لأستعد لصلاة الفجر؟ لقد كانت نيتي مغشوشة طوال سنوات، جعلت لنفسي الحظ الأكبر منها. رحتُ أستغفر وأبكي وأتخبط بين جنبات ذنبي. سبحانك، ما أرحمك بي، أنا الذي عبدتك سنين طوال بقلب لم يخشع. كم كان درسًا قاسيًا أن يُخدع المرء في نفسه! رحتُ أتلذذ بالنظر إلى المصحف.. عيناي تبصر كلمات الله مكتوبة متناولة في يدي.. مذعورًا أدركت أنها من المرات الأخيرة. كم من مرة تكاسلت عن قراءة وِردي لأقوم بعمل آخر؟ رباه ما حجم هذه النعمة العظيمة التي كنتُ غارقًا فيها وبجحود إنساني أصيل استخدمتها أحيانًا في المعصية؟
تأملتُ سير الصحابة والتابعين وبكيت كثيرًا عند قصة عروة بن الزبير ورحت أهدهد نفسي بقوله "إِن كنت ابْتليت فقد عافيت وَإِن كنت أخذت فقد أبقيت" وتمثله بشعر معن بن أوس "وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي"
وجدت نفسي تطمئن إذ تذكرت الجنة وما فيها من عوض. لقد كانت حياتي سابقًا تقوم على محورية الدنيا، لم تكن فيها العبادات سوى رصيدًا لخدمة غروري. أما الآن أشعر أن قلبي حيًا بحق، يدرك لماذا خُلق وأن الأصل هو محورية الآخرة وما الدنيا إلا سبيلُ وصول.
رحت أحاول أقلمة نفسي على حياتي القادمة، وأبحث عن وسيلة لممارسة عملي. عدت -بعد انقطاع دام فترة تخبطي- إلى صلاتي وصيامي المنتظمين. ولعمري كم اختلف تأثيرهما على حياتي! أدركت أن البلاء الأول كان في قلبي وقد زال، فما يضريني بلاء عيني طالما أن الله ينظر إلى الفؤاد وما حوى؟
هذه هي نهاية قصتي يا سارة، ومجددًا اعذري لي الإسهاب في الوصف. إن حديث المرء عن حياته شيء محبب إلى النفس خاصة عندما يشعر أنه أخيرًا امتلك زمام قلبه.
❤️
1