نُطق الخيال.
نُطق الخيال.
February 27, 2025 at 08:26 PM
كان لقاءً عابرًا في محطة القطار، حينما راودها سؤالٌ عن عمر المحطة وعن عدد الحكايا التي سمعت؟ كم من أملٍ رأته في عيني طالبٍ جاء إلى المدينة الكبيرة وحيدًا، محملًا بأحلام الدراسة في الجامعة؟ جلستْ على أحد المقاعد الحجرية وقد غاص عقلها في خليط من التأملات، ترى نفسها بالأمس شابةً متذمرةً من تأخر مواعيد القطار، تجلس على هذا المقعد، تلعن في سرّها كل من أشار عليها بالدراسة في هذه الجامعة بالذات، التي تبعد عن منزلها الحبيب مسافةَ عدة مدن والكثير من القرى. لمسةُ هواءٍ باردة جعلتها تحكم إغلاق معطفها حول جسدها.. إن الزكام ليس من الأشياء المحببة للنفس خاصةً لعجوزٍ شارفت على الستين. حولها، كان ذلك الشاب يحمل مكنسته ويعمل في صمت. تلاقت عيناهما لجزءٍ من الثانية، ثم هرب كلٌّ منهما بعينيه في اتجاه آخر. دقائق مرت، ورأت الشاب نفسه يجرّ خطىً مترددة ليجلس إلى جوارها على ذات المقعد، يفصل بينهما مسافة، مراعاةً لحدود الجسد. تنهدَ، ثم قال: - ادعي لي أتزوجها يا أمي. نظرتْ له مستفهمة وفي عقلها تساءلت: هل يتحدث في الهاتف؟ لكنه أردف قائلًا: - أنا آسف، لكن أمي ماتت من سنتين، ومن وقتها وأنا مالاقيش حد يحاوطني بالدعاء.. تعرفي؟ الله يرحمها، كانت تشبهك. العمر الطويل ليكِ يا أمي. لهجته الصعيدية الريفية التي أعادتها إلى شوارع قريتها. باتت في نفسها مشاعر حنينٍ ملحة منذ أن أصبحتْ "ابنة المدينة"، وبعد أن غيرت فيها سنون الزواج والعمل لهجتها وعاداتها، وربما حتى انتمائها. نفضتُ عن نفسها غبار المدينة، ونطقتْ بلهجة الفتى: - اسمها إيه يا ولدي؟ وأنا أدعيلك بيها؟ سُميّة، تعرفي يا أمي؟ وشها زي البدر المنوّر، والله العظيم عمري ما حبيت، ولا هحب زيها. أنا مبرضاش أعمل الحرام لا أخاف ربنا يعاقبني ويحرمني منها. أنا سمعت مولانا الشيخ يقول إن الاستغفار يجيب الرزق، وأنا رزقي، وكل اللي بتمناه من الدنيا، تبقى سمية جاري. بقيت أستغفر كتير، وأصلي كل يوم زيادة عن الفروض على قد ما يقدرني ربنا. وبقيت أصوم، ما هي أصلها دعوة الصائم ما بتتردش. أقولك على حاجة بس ما تضحكيش عليا؟ أنا بقيت أحرم نفسي من العشا وأحوّش تمنه عشان أطلعه لله، مولانا الشيخ قال ينفع نتوسل لربنا وندعيه بأعمالنا الصالحة... تفتكري يا أمي، هتبقى من نصيبي؟ كان لسانه كالفرس الذي حُلَّ لجامه. قد يُجنّ الإنسان إذا بقيت الكلمات حبيسة صدره، وقد كان صدر الشاب ممتلئًا بعواطف لا قِبَل له بها، حتى إنها زاحمت الكلمات فلم تبقِ لها مكانًا، فألقاها في حجرِ أول عابر سبيلٍ شعر في ملامحه ببعض الألفة. ردتْ عليه: - ربك رحيم، يا ولدي. - ونِعم بالله، يا أمي. صمتا ثم مدتْ يدها في حقيبتها، وأخرجت عدة ورقاتٍ نقدية، مدتُها إليه، ثم قالت: - امسك، يا ولدي. نهضَ مسرعًا، ثم ردّ: ـ لا يا أمي، أنا ما اتكلمتش معاكِ عشان كده. هما كانوا كلمتين في القلب، وربنا أراد يسوقك ليا تسمعيهم وتدعيلي. ـ دول مش ليك.. دول عشان سُمية. ـ اديهم لأي حد، واجعلي النية إن ربنا يرزقني سمية. طوت يدها على المال، فنطق الشاب: - سايق عليكِ النبي، ما تنسي تدعيلي. ابتسمت، ثم ردت: - هو مولانا الشيخ ما قالكش إنه ما ينفعش نقول "سايق عليك النبي"؟ وبعدين يا سيدي، حاضر، هدعيلك، بس... قطعَ كلماتها صوتُ صافرةِ قطاري المنتظَر، تبعها صوتُ الإعلان عن وصول قطار رقم ٧٦٥ إلى الرصيف رقم ٢. سار الشاب مبتعدًا عنها، فنهضت، تحمل حقيبة يدها وسارا متجهةً إلى القطار. ومن النافذة، راحت تتأمله وهو يجمع في صبرٍ الأوراق المتناثرة على الرصيف، قبل أن ينطلق القطار مبتعدًا، لتُستبدل صورته بليلٍ أضاء سماءه قمرٌ بهيّ، كإضاءةِ سُمية لقلب الشاب.

Comments