تأملات سلوكية
May 13, 2025 at 02:47 AM
مقامة الأنوار في مسالك المحبة المعلقة بالنبي المختار يا صاحبي... إني وقفتُ ذات ليلة من ليالي الفقد، على شرفة القلب الموحشة، والليل سادر بسواده، والنفس وحيدة في صحراء التيه، فإذا بنداء البِشر يأتيني من وراء حجب الغيب، يهتف بي: يا غريب الروح، يا أسير الأشواق، أتدري ما داء قلبك المتصدع؟ فقلت: هو داء لا تشفيه الأدوية، ولا تسكّنه الرقى، ولا يبرئه إلا كأس يُصب من يد المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم. فقيل لي: إن للمحبة باباً، ولهذا الباب حراساً ولا يُفتح إلا لمن عرف معارج السالكين، وسلك مسالك العارفين، وألقى بنفسه على أعتاب المنة، ذليلاً، كسيراً، مشدوهاً من عظمة من يحب. قلت: دلوني على تلك المسالك يا أهل السر. قالوا: دونك مسالك الأنوار، معلقة بنور المختار، لا تدرك إلا بالذوق، ولا تعرف إلا بالوجد، ولا يسلكها من تعلق بالمقولات دون الأحوال، ولا من سكن إلى الدعاوى دون الصدق. يا صاحبي... ما أدقّ معارج المحبة، وما أرهف مسالكها إلى القلب، وما أظلم القلب إذا خلا من شموسها، وما أتعس الروح إن لم تتذوق حلاوتها! فليس الحب عند العارفين دعوى تُلقى على الألسن، ولا أنشودة تتغنى بها القلوب الغافلة، ولا سجعاً كاذباً تتزين به المجالس، ولا رقصا ومزامير ومرقعات كما هي هرطقات المبتدعة بل هو سر بين الله وعبدٍ صفّى مرآة قلبه حتى انعكس فيها وجه الحبيب صلى الله عليه وسلم. وإنّي لأخاطبك يا أخي من مقام الذوق لا من مقام الورق، ومن لوعة الشوق لا من بلاغة المقولات، فأقول لك: إن للمحبة المحمدية علامات لو كنت من أهلها لرأيتها منقوشة على صفحة فؤادك، ولكنت تسمع نداءها في كل نسمة، وتقرؤها في كل آية، وترى طيفها في كل خاطر. وأول تلك العلامات... الاتباع، ثم الاتباع، ثم الاتباع. لا تبرح مكانك حتى تعلم أن المحبة الصادقة مرآتها الفعل، ولباسها الطاعة، وميدانها الاتباع، فتكون نفسُك تبعًا لما جاء به الحبيب، لا تأنس إلا بسنته، ولا ترضى في أمرك إلا بأمره، قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}. فهل سمعت يا صاحبي حباً يكون بدون اتباع؟ هيهات، تلك محبة كاذبة، خداع النفس لنفسها، محبة من يتوهم الحب وهو يسير إلى غير محبوبه. ومن العلامات... ذكره صلى الله عليه وسلم آناء الليل وأطراف النهار، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره، ومن اشتاق إلى وجهه اشتد وجده حين تخطر له سيرته. قال أحد العارفين: "من أكثر ذكر محبوبه، استولى حبّه على فؤاده"، وأنا أقول: بل يذوب قلبه ذوبان الثلج تحت شمس الصيف. ومنها... الثناء عليه بما هو أهله، والصلاة عليه، ومدح شمائله، والتغني بذكر خصاله، كيف لا وهو الذي شهد له مولاه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}؟ وأي بخل أبخل من امرئ ذُكر عنده الحبيب صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه؟ أولئك قوم جفت ينابيع الحب من قلوبهم، وجفت مآقي الشوق من أعينهم. ومنها... أن تحكم شريعته في نفسك، فلا ترى رأيًا إلا وهو رأيه، ولا تقف عند حكم إلا وقد وقفت قبله عند قوله. قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم...} فلا تسكن أيها العبد عند هواك، بل اجعل هواك تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك تصدق محبتك، وتثبت ولايتك، ويصدق زعمك. ومنها... أن تحب من أحب، وتبغض من أبغض، وتكون جندياً في جيش المحبة، تسير حيث سارت رايته، وتبغض من عاداه، ولو كان أقرب الأقربين. واعلم أن من لم يتأدب مع أصحابه وآل بيته، ولم يُجلّ محبتهم، فهو أبعد الناس عن ذوق المحبة الصافية، وأقربهم إلى محبة الأهواء. ومنها... أن تذب عن سنته صلى الله عليه وسلم، وتحمي رياضها من تلويث الجاهلين، وتصد هجمات المحرفين، وتكون حارساً يقظاً على ثغر الشريعة. كيف يهنأ بالعيش من يرى سنته تُحرف، وأحاديثه تُهجر، وأوامره تُجعل وراء الظهور؟ ومنها... أن تذكره بأدب، فلا يذكر اسمه المجرد، بل تقول: رسول الله، نبي الله، حبيب الله، وتقرن ذكره بالصلاة والسلام، لأن ذلك من تمام الأدب والمحبة، فلا تكن ممن قست قلوبهم حتى استغنوا عن هذا الجمال، واكتفوا بالجمود على الألفاظ. ومنها... أن تبلغ سنته، وتنشر علمه، وتعلم الناس هديه، وتخرج من ظلمات نفسك إلى نور دعوته، فإن لم تفعل، فما ذقت شيئاً من عسل المحبة، ولا وطئت شيئاً من رياض القرب. يا صاحبي... هذه هي العلامات، فانظر في قلبك، هل تجدها قائمة فيه؟ واعلم أن المحبة ليست نغماً على الألسن، ولا ترنيمة في ليالي السمر، بل هي دمعة خفية تنزل على خد قلبك حين تذكره، وزفرة حرى تخرج من أعماقك كلما خطر لك ذكره، وحركة في الجوارح تتبعها، وانقياد إلى هداه لا يحوجك إلى عتاب ولا تردد. يا صاحبي... هذه مسالك الأنوار إلى باب المختار، من سلكها صدق، ومن تخلف عنها فقد أوصد دون نفسه أبواب الذوق، واستبدل بأنوار المحبة ظلمات الدعوى. فاللهم اجعلنا من أهل محبته، وحققنا بحقيقتها، واسقنا من كأس مودته حتى لا نرى سواه، ولا نهتدي إلا به، ولا نسلك إلا سبيله، ولا نأنس إلا بجمال وجهه في كل خاطر، وعلى كل حال، وفي كل لحظة من لحظات أعمارنا، حتى يحل بنا يوم اللقاء ونحن على عهده، غير مبدلين ولا مستبدلين. حسن بن خلف بن سعيد الريامي 15 ذي القعدة 1446 هجرية 13 مايو 2025 م
❤️ 👍 2

Comments