تأملات سلوكية
May 14, 2025 at 02:34 AM
المقامة العتابية لأهل الكبائر
(مقام التبكيت والتذكير بيوم المصير)
حدثني الوجد يوما وأنا في سكينة خلوتي، وقد أسدل الليل ستوره، وانكفأت نفسي على سواد قلبها، فأبصرني الحق بعين البصيرة، فهالني قبح المعاصي حين تستقر في شغاف القلب، وتصير للعقل عادة وللروح مألوفا كالماء والهواء.
فرأيتني أولى من أعاتب نفسي قبل أن أعاتب الناس، فقلبت صحائف عمري فإذا هي سوداء كالليل البهيم، وقلت لنفسي الخاطئة:
ويحك يا هذه! أتتطاولين على الناس وأنت الموبوءة؟ أتعيرين القوم بما ابتليت به؟
ألست أنت من سكنك الإثم حتى ألفته، وزين لك الشيطان خطاياك فقلت: هذا زمان التسامح والتوسع، والله غفور رحيم؟
فبكت نفسي، وقالت: يا غافلا عن نفسه وهو ينظر في عيوب غيره! من ذاق عرف، ومن عرف خاف، ومن خاف نصح. فالنصح دين لا يسقط، والخوف من العجب فريضة على المذنبين.
هنالك سجد قلبي بين يدي الحق متذللا، ثم قمت إلى قلمي بدمع العتاب أكتب، وعلى لساني زفرة الموجوع أقول:
يا أهل الكبائر!
أما تخشون يوما تعضون فيه الأنامل وتقولون: {يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا}؟
أما يروعكم منظر الصحائف حين تنشر، والوجوه حين تسود، والأقدام حين تزل؟
يا أهل الكبائر!
قد شغلتم بزينة الدنيا حتى أوردتكم حياض الغفلة، وبهرجت عليكم المعاصي حتى حسبتموها حسنات، فويل لمن لقي الله وهو منهمك في شهواته، غارق في لجة لذاته.
ألا فاسمعوا قول الناصح المشفق، لا قول المتعالي المتفيهق:
توبوا إلى الله توبة نصوحا، واجعلوا بينكم وبين معاصيكم حجابا من دمع الخشية، فلعل الله يطهر قلوبكم ويبيض وجوهكم.
أما علمتم أن الميت يتمنى لحظة واحدة يعود فيها ساجدا لله، راكعا باكيا، وأنتم تتقلبون في لذاتكم كأنكم خلقتم للهو؟
ويلكم!
تخادعون أنفسكم بقولكم: {إن الله غفور رحيم}، وتنسون: {إن عذابها كان غراما}.
تؤخرون التوبة حتى يدرككم الموت على أسرة الغفلة، فتندمون حيث لا ينفع الندم.
يا أهل الكبائر!
عودوا إلى الله قبل أن يغلق باب التوبة، وتجدوا الصحائف خاوية إلا من السيئات، يوم يقال للعبد: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا}.
وختاما أقول لنفسي قبلكم:
ويلك يا نفس! هل لك أن تستحيي ممن يراك على ما أنت فيه؟
هل لك أن تتذكري قبرك الذي ينتظرك؟
هل لك أن تفري إلى الله فرار الخائفين الوجلين؟
اللهم يا من تقلب القلوب بين أصابعك، املأ قلوبنا خوفا من جلالك، وحبا لرضاك، واشتعالا بشوق إلى لقائك.
اللهم إنا نلوذ بك من قلوب قست فلم تخشع، وأعين عميت فلم تبك، ونفوس أسرت بشهواتها فنسيت ذكرك.
يا حي يا قيوم:
أذقنا حلاوة الإيمان، حتى تمرق شهوات الدنيا من أفواهنا كالزبد الذي يذهب جفاء.
واسكب في قلوبنا نور اليقين، فنستحيي من نظرة الملائكة لذنوبنا أكثر من حيائنا من نظر الخلق.
وعلمنا كيف نحبك، حتى لا نجد لذة إلا في طاعتك، ولا راحة إلا في مناجاتك.
يا من وسعت رحمته كل شيء، اجعل ذنوبنا جسرا نعبر به إليك – لا حاجزا يفصلنا عنك – فتبدلها حسنات كما تبدل الظلام نورا.
وارزقنا دمعة تطفئ نار المعصية، وخشوعا يذيب جبال الكبرياء، وندما يمحو سجلات الزلل.
يا رب، لا تسلط علينا لذة الذنب حتى ننسى مرارة الندم.
ولا تشغلنا بعيوب الناس عن عيوب أنفسنا.
ولا تخرس ألسنتنا عن الدعاء، واجعل صمتنا فكرا في عظمتك، وحركاتنا سجودا لجمالك.
اللهم:
إن كنا قد أتعسنا بالمعصية، فأنعشنا بلذة المناجاة.
وإن كنا خسرنا حلاوة الطاعة، فارددها إلينا وزدنا منها.
وإن كنا نعاني من قسوة القلب، فلينه بحبك.
يا من يغفر الذنب ويقبل التوب:
اجعلنا من عبادك الذين إذا أذنبوا استغفروا، لا يصرون.
وإذا عثروا قاموا، لا يقعدون.
وإذا ذكروا انتبهوا، لا يعرضون.
اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا تنسنا ذكرك في وحشة الليل، ولا تحرمنا لذة مناجاتك حين تنقطع الأصوات إلا صوتك، وتخفق القلوب بين الخوف والرجاء.
آمين يا رب العالمين، وصل اللهم على سيدنا محمد، النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حسن بن خلف بن سعيد الريامي
الأربعاء 16 ذي القعدة 1446 هجرية
14 مايو 2025 م