تأملات سلوكية
May 15, 2025 at 02:11 AM
مقامة تنبيه الذكي للزلل الخفي حدثني القلب الأواب حين انبثق فجر السَّحَر عن لطيفة في مسالك السالكين، يغفل عنها المبتدئ، ويستوحش منها المنتهي، إذ لا ينكشف سرّها إلا في مواطن الغفلة الخفية، حيث يركن القلب إلى ما اعتاده من خضوع ظاهر، ويغيب عن شهود نفسه في دقائق الخواطر. وكان من حديثها أني دخلت يومًا مجلس قوم من أرباب السلوك، قد أُخفي عليهم زلل النفوس وهم يحسبون أنهم على محجة بيضاء، فتذاكروا ما يقع فيه الناس من زلل ظاهر، فأنكروا على العصاة زللهم، وجعلوا يعجبون من تقصير المقصرين، ويشكرون الله على سلامتهم مما ابتُلي به إخوانهم. فوقع في قلبي حينها خاطر ذو شجن، كأنه زفرة قلب مكروب، يقول: يا هؤلاء، أما تخشون أن يكون هذا الذي أنكرتموه على غيركم قد وقعتم فيه بطريق آخر؟ أما علمتم أن من زلل القلوب الخفي أن تُعجب بنظافة ظاهرك، وأن ترى نفسك في مأمن مما ترى غيرك واقعًا فيه؟ ألا إن هذا الزلل أفتك من زلل الجوارح، وأخطر من المعاصي الجلية، لأنه زلل من داخل القلب، لا يراه إلا من انكشفت له الحُجب، ولا ينجو منه إلا من استودع نفسه في يد الله، لا في يد نفسه. يقول أبو إسحاق الشيرازي الفقيه الشافعي المتوفىٰ سنة 393 هجري : كنت أنا وأبي مسجونين وصلينا أنا وهو والمساجين نيام... فقلت: لم يقم من هؤلاء من يصلي ركعتين، فقال: يا بني لو نمت لكان خيرا لك من وقوعك في الخلق. استقامتك لا تُعطيك الحَقِّ في السخرية مِنْ ضَلال غيرك فلا تنظر إلى العاصي نظرة استعلاء ، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء فحين اختارك الله لطريق هدايته ليس لأنك مميز أو لطاعة منك بل هي رحمة منه شملتك، قد ينزعها منك في أي لحظة، لذلك لا تغتر بعملك ولا بعبادتك، ولا تنظر بإستصغار لمن ضل عن سبيله، فلولا رحمة الله بك لكنت مكانه، وإياك أن تظن أن الثبات على الاستقامة أحد إنجازاتك الشخصية، فالله قال لنبيه خير البشر صلى الله عليه وسلم : (وَلَوْلا أَنْ تَبَتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيْلًا) فكيف بك؟ يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى : "أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس، فقائم الليل وصائم النهار إن لم يحفظ لسانه أفلس يوم القيامة" . وهممت أن أُعلنها كلمة حق، لولا أني خشيت أن أكون أول من يقع في هذا الزلل بلسان نصيحتي، فآثرت السكوت وقلت في نفسي: كم من ساكتٍ أنطقه لسانُ حاله وهو يظن أنه ساكت، وكم من ناطقٍ أخرسَه الله وهو يحسب أنه بليغ. وفي تلك الليلة رأيت فيما يرى السائرون في مواطن الذوق كأن هاتفًا يناديني من وراء الحجاب: يا ابن التراب، لا يعجبك أنك تفرّ من زلل المعاصي، وأنت غارق في زلل العُجب الخفي، فزلل القلوب أخفى من دبيب النمل، وأشد ظلمة على السالك من ظلمة المعصية الظاهرة، فإن صاحب المعصية يستبصر بذنبه، ويطلب العفو من ربه، وأما صاحب العُجب فلا يرى لنفسه ذنبًا فيبقى في حجاب الغفلة إلى أن يدركه الموت وهو يحسب أنه من الناجين. فاستيقظت مذعورًا، وأخذت أعاتب نفسي على سكوتها عن شهود هذا الخطر، فعلمت أن مدار النجاة كله على دوام الحياء من الله، وخوف الانزلاق إلى الزلل الخفي في كل حال، وأن العبد لا يأمن على نفسه ما دامت الروح في الجسد، ولو عبد الله عبادة الثقلين. فهذه يا صاح، لطيفة من لطائف الزلل الخفي، لا ينكشف بها الحجاب إلا لمن ذاق مقام الحياء بين يدي الجليل، وذاق الفناء في محبة الجميل، وعلم أن سلامة السالك ليست في كثرة الأعمال، ولا في صرامة الأحوال، بل في دوام الافتقار، وجريان الخوف مع الرجاء في مجاري السر الخفي. واعلم أن من أصدق دلائل الزلل الخفي: أن يُعجب السالك بأمانه في الطريق، وأن يُحسن الظن بنظافة قلبه، فيغفل عن شهود المنة والفضل، ويقع في فخ الرضا عن النفس، وذلك أعظم الزلل وأخطره، فإنه زلل أهل القرب، وحجاب أهل الأنس، لا يُحَسّ ولا يُرى، إلا إذا شاء الله للسالك أن يُكاشَف بحقيقة نفسه في حضرة الصدق. فانظر يا مسكين، كيف يكون زلل الزاهدين أرقى من زلل العصاة، وأخفى من زلل الجوارح، وأشد خطرًا على السير، فاعتصم بحبل الله، وقل كلما خُيّل لك أنك وصلت: إلهي، أنا المفتقر إلى رحمتك في كل نفس، وأنا العاجز عن رؤية زللي إلا إذا كشفت لي بلطفك، فاللهم دلني عليك، وبصرني بعيوب نفسي، وأدخلني في حمى رحمتك مدخل الصادقين الخائفين حَيَاءً من نور وجهك. حسن بن خلف بن سعيد الريامي الخميس 17 ذي القعدة 1446 هجرية 15 مايو 2025 م
❤️ 👍 3

Comments