تأملات سلوكية
May 17, 2025 at 03:24 AM
الكلام أناقة.. وحُسنُ البيان زينة الإنسان
الحمد لله الذي جعل البيان آيةً من آياته، وعَلَّم الإنسان ما لم يعلم، فجعله ناطقًا مفكرًا، ولسانه شاهدًا على فكره، وجعل الكلمة الطيبة صدقة، والقول الحسن مَطيّةَ القرب ومرآةَ الروح. والصلاة والسلام على أفصح من نطق بالضاد، محمدٍ الهادي إلى سبل البيان، وعلى آله وصحبه من اقتبسوا من نوره فأشرقت ألسنتهم بالحكمة، وتأنَّقوا في منطقهم فكانوا جواهر في صدف الزمان.
أما بعد..
فإن الكلامَ مرآةُ النفس، ولسانُ العقل، وجمالُ الروح. ألا ترى أن الله تعالى حين وصف كتابه العزيز قال: {الرَّحْمَٰنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4]؟ فجعل البيانَ قرينَ الخلق والتعليم، وزيّن به تكوين الإنسان!
ولذلك كان القرآن كله أدبًا، يعلمك كيف تمشي، وكيف تقول، وكيف تصمت. قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63]، فدلّك على فخامة الرد وبلاغة السكوت. ولمّا أمر بالجدال، قيده بالحسنى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، لأن الكلمة الشريفة أنبل من أن تنحدر في سُباب أو لغو.
ومن السنة الغرّاء، أنك تجد فيها مدرسة البيان والذوق. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاب شيئًا لا يصرّح بقبحه، بل يقول: «ما بالُ أقوامٍ يفعلون كذا؟»، وكان إذا ذمّ لم يفحش، وإذا وعظ رقَّ. حتى المنافقين، وهم أهل الخيانة، لم ينعتهم بأشنع الألفاظ، بل قال: «آية المنافق ثلاث...».
والكلمة ميزان، فهي التي تُظهر عقلك، وتكشف أدبك، وتُؤنس قلب من يسمعك. قال بعضهم: "إذا أردت أن تُهين خصمك، فأكرمه بلسانك"، فهي ضربة البيان التي تترك أثرًا أنقى من أظفار الحِدّة، وكم من رجلٍ عرفْتَ منطقه قبل أن تعرف صورته!
وكانوا يقولون: "اختر لنفسك من الكلام أطيبه، كما تختار لطعامك ألذه"، و"لا تتكلم إلا بما يزينك أو يغنيك، فإن السكوت سلامة، والكلام زينة أو غنيمة".
والبلاغة كانت أدبًا حيًّا عند السلف، لا زخرفًا لفظيًا. كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون القرآن، أدبَ المشي، والكلمة، والنظرة، والسكوت. سُئل أعرابيٌّ عن رجل، فقال: "هو حلو الحديث، مرُّ المواعيد"، فجمع بين الصدق والبيان.
وكانوا يربّون التلاميذ على ذلك، فقيل لرجل: "أنا أكره فلانًا"، فقيل له: "بل قل: لا أحبه، فليس كل ما لا تحبه تكرهه!"، فهي تهذيبٌ في التعبير قبل أن تكون تهذيبًا في المشاعر.
والكلمة الطيبة، كما قيل، تُخرج من قلب السامع مثلما تُخرج النحلة العسل من الزهر. واللغة ثوب الفكر، فإذا كانت رثّة، ظننت أن صاحبها رثٌّ! بل إن بعض الناس كلامهم كدويّ الطاحونة، تسمع لها صخبًا ولا ترى لها طحينًا.
فيا صاحب اللسان، تذكّر أن الكلمة سهم، إذا خرجت لا تعود، وأن اللفظ كالطيب، يُذكرك به الناس حيثما حللت، وأن الأدب تاجٌ لا يرتديه إلا الأحرار.
ومن طلب الأدب لغير الله، فقد تزين بغير متاعه، ومن طلبه لله، فقد تزين لملك الملوك.
اللهم اجعل كلامنا ذكرًا، وصمتنا فكرًا، وقلوبنا عامرةً بحبك.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
حسن بن خلف بن سعيد الريامي
السبت 19 ذي القعدة 1446 هجرية
17 مايو 2025 م