تأملات سلوكية
May 17, 2025 at 03:25 AM
مقامة الكَلِمة الطيِّبة: سُلاف الأرواح وأنفاسُ العارفين
من سلسلة “مقامات السالك إلى المقام الأجلّ”
يا صاحِ، هل جرَّبتَ لذَّةَ الكلمةِ الطيِّبة إذا خَرَجَتْ من قلبٍ مطهَّرٍ بالخُشوع، وجرَتْ على لسانٍ سُقِيَ من معينِ الذكر، ووقعتْ على أذنِ مُشتاقٍ فأنبتتْ في قلبه جنَّةَ المعنى؟ تلك — يا أخا القلب — نَفَسٌ من أنفاسِ الرحمة، تُحيي بها الأرواح كما يُحيي الغيثُ الموات، وتَجلو بها وجوهَ الأيام كما يَجلو الصباحُ رُكامَ الليل.
فلا تُطلب الجنّةَ في السيوف ولا في الصوامع، بل في طيبِ اللفظ، وسلامِ القلب، وإطعامِ الجائع من غير مَنٍّ ولا أذى.
ثلاثٌ، ولكنها مفاتيحُ النعيم، وهل الجنّةُ إلا دارُ من طابَ لسانُه، وسلمَ قلبُه، وسخا بما عنده ابتغاء وجه الله؟
يا هذا، إنَّ طيبَ الكلام ليس بزخرفٍ يُنظَم كما تُنظَّمُ الجواهر، ولا حُسنِ اللفظِ وحده، بل هو صفاءُ النيَّة، وصدقُ الباطن، وندى القلب إذا تكلَّم.
الكلمة الطيِّبة شجرةٌ من عالمِ الأنوار، أصلُها في القلب، وفرعُها في اللسان، وثمرُها في الأرواح، تُثمرُ سكينةً، ومحبَّةً، وسلامًا.
وكان الحكماءُ يقولون: الكلمة الطيِّبة تُنتقى كما يُنتقى الرُّطبُ من النخل، يُسرُّ بها الجليس، ويهتدي بها الضالّ، وتشفى بها الجراحُ الخفيّة. وهل يُشبِهُ طيبَ الكلام إلا طيبُ الثمر؟!
واعلم — هداك الله — أنَّ الكلمةَ إذا خرجت من القلبِ عرجتْ إلى السماء، وإن خرجت من اللسانِ لم تتجاوز الآذان.
وقد قيل: الكلمةُ الطيِّبة كالماء الطهور: لا يُروى بها الظمآن فقط، بل تُطهِّرُ ما سواها.
فكيف — بالله عليك — ترضى لنفسك أن تكون من أهل الضجيج، لا من أهل الدعاء؟ من أربابِ الثرثرة، لا من ورثةِ الحكمة؟
أفلا ترى أنَّ من طابتْ خُلوته طابَ حديثه، ومن رقَّ قلبُه رقَّ لفظُه؟
يا أيها السالكُ إلى مقامِ الذوق، تأمَّل كيف كانت البشارةُ الأولى لا بالغنائم، بل بالكلمة: أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وصلّوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام.
وهل السلامُ إلا كلام؟ وهل الصلاةُ إلا نجوى؟ وهل النجوى إلا حروفٌ تُنقشُ على ألواحِ الأرواح؟
وكانوا يقولون: "نعمت الهدية الكلمةُ من الحكمة، يحفظها المرء حتى يُلقيها إلى أخيه". وهل هناك صدقةٌ أبقى من كلمةٍ تُنقذ قلبًا من غفلته، وتغسل عنه دَرَنَ الدنيا؟
وقد يُقال: دخل بعضهم على ملكٍ ينتظر الموت، فلم يمنعه ذلك من أن يُنطقَ بالحقّ، فقال قولًا رقَّ له الجبارُ، وأطلقه، لأنَّ الكلمةَ دخلتْ إلى سويداءِ قلبه فأنطقت فيه الرحمة.
فيا ابن الطريق، هل تُنقِّي كلامك كما يُنقَّى المسك؟
أم تُلقي الحروفَ كما يُلقي السّفيهُ الحصى في وجه المارَّة؟
أتراك تَزن كلامَك بميزانِ الذوق؟ أم تُحدِّث كما يُحدِّثُ أهلُ الغفلة، بلا وَجهٍ ولا قلب؟
يا هذا، الكلمةُ الطيِّبة تُحيي قلبًا، وتغفر ذنبًا، وتُدخل الجنَّة.
وهل بَرُّ الحجّ إلا في طيب الكلام؟ وهل سلعةُ الجنّةِ إلا رقيقةٌ لمن رقَّ لفظُه، ولانَ لسانُه، وصدقَ قلبُه؟
> وللهِ أقوامٌ إذا ما تكلَّموا
سمعتَ قلوبَ الناسِ قبلَ الأسامِعِ
يطيرُ بكَ المعنى إلى نورِ ربِّهم
وتصحو بكَ الأرواحُ بعدَ المضاجعِ
فاختر كلامك كما يختار العاشقُ الوردَ في رَوضةِ حبيبه. وكن ممن يَسكبونَ على الأرواحِ عسلاً لا حَطبًا.
وتذكّر: إذا طاب قلبُك، طاب لسانُك، وإذا طاب لسانُك، نادَتك الملائكة: هذا من أهل الجِنان.
"الكلمة الطيبة شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء".
حسن بن خلف بن سعيد الريامي
السبت 19 ذي القعدة 1446 هجرية
17 مايو 2025 م
❤️
👍
2