تأملات سلوكية
May 19, 2025 at 01:31 AM
مقامة البوصلة والقلق بين الفرق والجمع حدثني قلب صادق، وقد جلسنا ذات سَحَر على رابية الفكر، وقد تهجد الليل ونامت العيون إلا عيون التعلق والذكر، فقال لي: يا صاح، أما ترى أني أصبحت أحمل بوصلة لكن كأن يدي ترتعش؟ أسوق نفسي إلى الله ولكن بأثقال الفكر والخواطر، وكأني أقود نفسي بألف كابح، حتى تسللت همومي في طرق الذكر، وصار قلبي مشغولًا بهمه عن محبوبه... فقلت له: ويحك يا صاح، لقد وقعت في ورطة السالكين، حين يتوهمون أن الفكر وحده هو الدليل، وينسون أن نور الطريق في تسليم القلب لا في تثقيل العقل. أما علمت أن القلق إذا غلب صار جسرًا إلى التيه، وأن كثرة الطرقات قد تضل البوصلة؟ قال: بلى، لكني أخاف أن أترك الفكر فأقع في الغفلة، وأخشى أن أستسلم للذكر فأفقد حرارة الطلب... قلت: يا صاح، لو نظرت إلى كتاب الله لرأيت الفرق والجمع في آياته: أما الفرق فقد ناداك الله به حين قال: "إياك نعبد وإياك نستعين" [الفاتحة: 5] هنا قُطعت البوصلة نصفين: عبد ورب، طاعة وافتقار. ولا خلاص للسالك من هذا الفرق ما دام في دار التكليف. وأما الجمع، فهو في قوله تعالى : "قل هو الله أحد" [الإخلاص: 1] حيث يُمحى كل شيء إلا هو، فلا عبد ولا سواه في شهود الأحدية. فمن وقف عند الفرق، عاش في ضيق التكاليف والخوف، ومن استرسل في الجمع، طاش في بحار الفناء ونسِي آداب الشريعة. قال لي: فكيف أجمع بين البوصلة واليقين؟ قلت: اجعل بوصلة قلبك "هو الله"، ودع الفكر خادمًا لا سيدًا. قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الذكر لا إله إلا الله" [الترمذي]. أتدري لم؟ لأنها ذكر الجمع في مقام الفرق. فمن قالها بقلبه شاهدًا، جمع بين كونه عبدًا، وبين شهود الأحدية في القلب. قال: لكن القلق يا صاح يتسلل كالسارق في غفلة الليل. قلت: نعم، فاجعله سراجًا لا سوطًا، إن شعرت بالقلق فاذكر قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك" [الترمذي]. فقد ردّ البوصلة إلى الله، وأراح القلب من وهم التحكم والسيطرة. قال لي صاحبي: ما أعجبك اليوم يا صاحب المقامات! قلت: لا عجب ولا غرابة، إنما هي نفحة من قوله تعالى: "قل كل من عند الله" [النساء: 78]. فالفرق والجمع، الخوف والرجاء، الفكر والذكر... كلهم من عند الله، ومن عرف هذا سكنت روحه وإن اضطرب جسده. يا صاح، دع البوصلة في يد الله، وكن أنت عبدًا في أدبك، ذكرًا في صمتك، شاهدًا في قلقك. واجعل همك واحدًا: "هو الله"، فما ضلّ من كانت قبلته الله. هو الله فاعرفه ودع فيه من وما دعاك ولم يترك طريقك مظلما عن الحق نحو الخلق يدفعك العمى تقدم إلى باب الكريم مقدماً له منك نفساً قبل أن تتقدما حسن بن خلف بن سعيد الريامي الإثنين 21 ذي القعدة 1446 هجرية 19 مايو 2025 م
❤️ 2

Comments