تأملات سلوكية
May 20, 2025 at 06:42 AM
العبودية في حضرة الأحد
(أدب السالك ومزالق الطريق)
حدثني قلبي لما أضناني الفكر، وأسهرني القلق، وجفاني النوم من توالي خواطر التوحيد ومزالق المريدين، حتى رأيت بين الغفلة والعرفان خيوطًا دقيقة لو انفلتت لأوردت السالك موارد الهلكة، ولو أُمسكت بميزان الشرع لأوصلته إلى المقام الأجلّ.
فقلت: يا نفسي المترددة بين مقام الفرق ومقام الجمع، أما آن لك أن تفقهي سرّ التوفيق بينهما، وتعلمي أن السير إلى الله لا يكون بمحو الشريعة ولا بهدم الأحكام، بل بفهم دقيق لمواقع القدم؟
فانبثقت من خاطري خواطر كأنها إملاء الملَك، تقول:
اعلمي أن الفرق هو مقام عبودية العبد، وافتقاره، وقيامه بالتكاليف من صلاة وزكاة وصوم وحج، وهو حال الصحابة الذين قال الله فيهم:
{كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون} [الذاريات: 17-18]،
وحال النبي ﷺ حين قال: "أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام"،
فهو مقام الأدب في الأفعال، والاعتراف بالحدود، وملازمة الخضوع.
وأما الجمع، فهو مقام شهود القلب لوحدانية الله في كل شيء، حيث يغيب عن الخلق، ويرى الفعل لله وحده، كما قال تعالى:
{بل لله الأمر جميعًا} [الرعد: 31]،
فلا يرى فاعلًا سواه، ولا مؤثّرًا إلا هو، ولا موجودًا بحق غيره.
وهو مقام قوله تعالى:
{وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123]،
فالجمع هنا في التوكل، والفرق في العبادة، وما جمع الله بينهما إلا لحكمة سلوك الطريق.
قلت: يا عجبًا! إذن الجمع لا يُبطل الفرق، بل يُجمّله ويُزهد النفس في ادعاء الكمال.
أليس الله قد جمع بين المقامين في سورة الفاتحة؟
{إياك نعبد} (فرق)، {وإياك نستعين} (جمع)،
فالعبد يعبد، لكنه لا يستعين إلا بالله، فهو قائم بالحق، لا بنفسه.
وكذلك في سورة الإخلاص، حيث يُمحى كل فرق:
{قل هو الله أحد}،
أي لا اثنينية، لا فعل ولا وجود إلا لله.
لكن من غلب عليه هذا المشهد دون رجوع إلى الفرق، تاه في مزالق المبتدعين، وزعم أن الفناء يُسقط التكاليف، وهذا باطل بإجماع أهل الحق.
وقد قال بعض العارفين:
"آخر ما ينكشف للعارفين قيام العبودية في مقام الحقيقة"،
فمن ادّعى الجمع ولم يعرف الفرق، حُجب عن نور الحقيقة.
وقال سيدي ابن عطاء الله السكندري:
"ربما فتح لك باب الطاعة وما فتح لك باب القبول، وربما قضى عليك بالذنب فكان سببًا في الوصول"،
فالفرق قد يكون أصدق في حقك من دعوى الجمع التي تورث الغرور.
وقال ابن عربي في الفتوحات المكية:
"الفرق جمع والجمع فرق، فمن لم ير الجمع في الفرق فقد ضل، ومن لم يفرق في الجمع فقد زل"،
فاحذر أن يغلب عليك مقام حتى يعميك عن الآخر.
يا صاح، تأمل قوله تعالى:
{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} [الحجر: 99]،
فالعبودية لا تنقطع، وإن فني القلب في بحر الجمع، ما دامت الروح في الجسد.
وقد قال ﷺ:
"أنا أعرفكم بالله وأخشاكم له"،
فهو ﷺ في قمة الجمع، لكنه في غاية الفرق.
يا صاح، السالك العاقل يجعل الفرق سياج الجمع، والجمع روح الفرق، فلا يشتغل بنفسه عن الله، ولا يتوهم الخروج عن دائرة الشرع.
فالقلق إذن هو قلق الأدب، لا قلق الشك، هو قلق المحبين، لا قلق المتشككين،
هو قلق الصحابة وهم يسمعون قوله تعالى:
{ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 4-6]،
ومع ذلك كانوا يُفتشون قلوبهم لئلا يدخلها العجب.
فطوبى لمن جمع بين نور الجمع وسياج الفرق، بين أدب العبدية ومحبة الأحد فهو العبد الرباني الذي عرف قدر نفسه فرفعه الله
فدع البوصلة بين يدي الله يا صاح، ولا تكن من القلقين الذين يسوقونها بأيديهم المرتجفة،
بل كن من المطمئنين الذين ساروا في الأدب حتى أُدّبوا، وفي العبودية حتى أحبّوا، وفي التسليم حتى فنيت نفوسهم وبقي الله وحده.
فاللهم يا واحدًا أحدًا، يا فردًا صمدًا، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم، اسلك بنا سبيل العبودية في حضرة الأحدية، واجعلنا ممن وقفوا على بابك لا يبرحونه، وممن عبدوك على عين بصيرة لا على عماهة، وممن جمعتَ لهم بين شهودك وخشيتك، وبين محبتك وتعظيم أمرك، فصاروا بك ولك وفيك.
اللهم لا تحرمنا من أنسك بشطط الدعوى، ولا تقطعنا عن حضرة قربك بغرور الفهم، واجعلنا ممن إذا فني، فني في طاعتك، وإذا بقي، بقي على بابك.
اللهم اجعل قلوبنا مرآةً لتوحيدك، وأرواحنا مهاجرًا إلى سناك، وسرائرنا موطنًا لأمانك، وأدخلنا في زمرة أوليائك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
وصلى الله على سيدنا محمد، سيد السالكين، وإمام العابدين، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الهادين، ومن سار على دربهم إلى يوم الدين.
والله ولي التوفيق.
حسن بن خلف بن سعيد الريامي
الثلاثاء 22 ذي القعدة 1446 هجرية
20 مايو 2025 م
👍
1