تأملات سلوكية
May 21, 2025 at 02:52 AM
مقامة الخشية بين رهبة العبد وهيبة العارف كنتُ مسامرًا صاحبي ذات ليلةٍ نام فيها القمر، واستيقظ في السحر، فقال لي: حدثني قلبي لما خفقت جوانحه من نسيم الأسحار، وأزهرت تربة الفؤاد بنور الاستبصار، وألهمني الحقُّ سرَّ الخشية حين تردَّدت بين مقام الجمع ومقام الفرق، فوجدت في قلبي رهبة لم أعهدها في سالف الأيام، رهبة كأنها القبض في حال البسط، والخوف في لحظة الأمن، والفناء تحت ستار البقاء، كأن القلب يمشي على خيط من نور، فوق لجّة من جلال. فقلت: يا صاح، إن الخشية مقام لا يعرفه إلا من صحَّ له تمييز الفرق، وذاق شهد الجمع. أما في الفرق، فالخشية ظاهرة جليّة، هي خوف العبد من تقصيره في طاعة مولاه، وهو يقرأ: {إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} [يونس: 15]، ويشهد: {ويحذّركم الله نفسه} [آل عمران: 28]، ويتذكر: {إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير} [الملك: 12]. فهو عبد خائف، وجل، يرى نفسه مقصِّرًا عاجزًا، ولو ضاعف عمله أضعافا مضاعفة فإنه لا يفي ولن يفي ذرة من حق الله تعالى عليه، وأنى للعبد أن يفي شيئاً من حق الله عز وجل؟ وأما في الجمع، فالخشية أعجب وأدقّ، لأنها ليست من الخوف على النفس، بل من تعظيم الجلال، كما قال تعالى: {ويسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته} [الرعد: 13]. هي خشية من حضر قلبه في سطوة الكبرياء، ومن راقب أسرار الجلال. هي الخشية التي قال فيها الحبيب المصطفى ﷺ: "أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية" [رواه البخاري]. فهي خشية معرفة، لا خشية جهل، وخشية حبّ لا خشية عقوبة. هي خضوع القلب الكامل لعظمة الأحد، الذي لا يُدرك كُنهه عقل، ولا يحيط به وصف. هي خشية موسى حين خرّ صعقًا عند تجلي الجلال: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا وخر موسى صعقًا} [الأعراف: 143]، وخشية إبراهيم حين قال: {الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 78-80]، فما رأى نفسه في شيء، بل رأى يد الله في كل شيء. يا صاح، الخشية بين الفرق والجمع بحرٌ لا يُسبر غوره، في الفرق: خوف من النار وسخط الجبار، وفي الجمع: حياء من الجلال، وإشفاق من سطوات الكبرياء. وقد قال أبو القاسم القشيري: "الخشية على قدر المعرفة"، وقال الجنيد: "الخوف سراج في قلب السالك، إن سار به إلى الله وصله، وإن رجع به إلى نفسه أبعده"، وقال ابن عطاء الله: "ربما أضاء لك نور الخوف ما لم يضئ لك نور الرجاء"، فالخشية باب الأدب، بل تاج السالكين. قلت: يا صاح، لو علمتَ أن الملائكة المقرّبين لا تفتر قلوبهم من الخشية، مع أنهم في الحضرة العلية، إذ يقول الله: {يسبّحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 20]، {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6]، لعلمت أن الخشية لا تزول حتى في مقام الجمع، بل تزيد. فاحذر يا صاح من دعوى الجمع بلا خشية، فهي زندقة مبطّنة، فالمحققون قالوا: "من ادّعى الجمع ولم يخشَ الله فهو شيطان، ومن ادّعى الفرق ولم يحضر الجمع فهو حجاب". فخير السالكين من جمع بين الخشيتين: خشية الفرق (الخوف من التقصير)، وخشية الجمع (الهيبة من الجلال). وإذا ارتقى السالك في معارج الإحسان، غلبت خشية الجمع على قلبه، لأنه يرى أنه مهما بلغ، فهو عبد ضعيف تحت سطوة القهار الجبار. فيردّد مع الأولياء: "لو اطلعت القلوب على ما فيها من خفايا الرياء والعجب، ما رضيت أن تُرفع منها أنّة واحدة"، ويقول مع الصديق رضي الله عنه: "ليتني شعرة في صدر عبدٍ مؤمن". يا صاح، مقام الخشية تاج المقامات، وسراج يضيء ظلمة النفس حتى في أصفى لحظات الجمع، ولا ينطفئ إلا بانطفاء الروح. فطوبى لعبدٍ خشي ربَّه في الفرق فاجتهد، وخشيه في الجمع ففني، ووقف بين يديه في حياء العبودية، وهو يردّد: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]، {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا} [الكهف: 110]، {والذين يؤتون ما آتَوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون} [المؤمنون: 60]. اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلانية، في مقام الفرق ومقام الجمع، واملأ قلوبنا من جلالك حتى لا نخاف غيرك، ولا نرجو سواك، واغمسنا في نور معرفتك حتى نفنى عن شهود نفوسنا، ونقوم بك لا بأنفسنا، يا أرحم الراحمين. حسن بن خلف بن سعيد الريامي 23 ذي القعدة 1446 هجرية 21 مايو 2025 م
🤲 1

Comments