تأملات سلوكية
May 28, 2025 at 07:43 AM
مقامة شجرة الاستغفار من مقامات السلوك إلى المقام الأجل الحمدُ لله الذي خلقَ القلوبَ ليبتليها بالذنوب، ثم فتحَ لها بابَ الاستغفارِ لتغتسلَ من العار، وجعلَه سحابَ الرحمةِ، وسُقيا الأرضِ بعد طولِ الإنساءِ، وسكينةَ النفسِ بعد طولِ الجفاء. يُمسكُ عنّا حين نُمسكُ، ويُفيضُ حين نرجعُ، ويعطي على مجرّد الندمِ، ويُبدّلُ بالسؤالِ صفحًا، ويجعلُ من قولِ العبدِ "أستغفرُ الله" شجرةً باسقةً تورقُ في دارِ الدنيا، وتثمرُ في دارِ القرار. وأشهدُ أن لا إله إلا هو، الغفّارُ التوّابُ، الذي جعلَ المطرَ في كفِّ الاستغفارِ، والولدَ في رجعِ المناجاة، والرزقَ في دموعِ التائبين. وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، الذي كان يستغفرُ في اليومِ سبعينَ مرّةً، وما عَلِمَ من ذنبٍ ولكنّ قلبه كان في صفاءِ التوبةِ كأنّه ينجو من كلِّ يومٍ خشي أن يهلكَ فيه. بلغني – وكان الحديثُ عندي صدقًا وإن جاءَ في طيّ الحكاية – عن ركبٍ من العارفينَ، ساروا في ظلامِ الذنوبِ، فكانت الذكرى نارًا، ثم أشرقت عليهم التوبةُ فكانت نورًا، ثم وقفوا على بابِ الاستغفار، فما هو إلا أن فتحوه، حتى وجدوا السماءَ تُمطرُ عليهم من الرحمات، والأرضَ تُنبتُ من البركات، والقلوبَ تُورقُ بالخيرات. قال قائلهم: "تدبّرنا قولَ الله سبحانه وتعالى على لسانِ نوح عليه السلام : ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ * وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾، فإذا كلُّ بركةٍ في الدنيا متفرعةٌ عن هذه الشجرةِ المباركة: شجرةِ الاستغفار." قال أبو الطيب الجرناني – وكان ممن عاصرَ القحطَ في سنةٍ نضبَ فيها السحابُ وتيبّستِ الجداولُ – خرجتُ في قومٍ يشكونَ إمساك السماء، فإذا الأرضُ كالكفنِ على وجهِ الميت، والقلوبُ كالخشبِ اليابسة، فقلتُ لشيخٍ في ناحيةِ المسجدِ يكثرُ من الاستغفارِ: ما بالُ السماءِ أمسكَتْ ماءها؟ فقال: بل القلوبُ أمسكتْ عن دموعِها، ولو استغفروا كما ينبغي، لانهمرَ الغيثُ كما تنهمرُ العبراتُ من عينِ النادمين، أما قرأتَ قوله تعالى: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾؟ فاستغفارُ العبدِ دلوٌ في بئرِ السماء، لا يُرفعُ إلا ممتلئًا. وحدّثني شيخٌ من أهلِ البوادي، كان لا يملكُ إلا قلبًا حيًّا ولسانًا يلهجُ بـ"أستغفرُ الله"، فما لبثَ أن فتحتْ له الدنيا خزائنَها، وسأله الناسُ: من أين؟ فقال: من حيثُ لا تحتسبون، من بابٍ فُتحَ بالاستغفارِ، ومفتاحه ندمٌ لا يُرى، وصِدقٌ لا يُشترى. فقلتُ: روي عن النبي ﷺ: «مَن لزمَ الاستغفارَ جعلَ الله له من كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ومن كلِّ همٍّ فرجًا، ورزقَه من حيث لا يحتسب». وقال الورّاقُ في حديثِ الولدِ المرزوقِ: إنّ شيخًا عقيمًا مكثَ على حرمانِه سنواتٍ، حتى أكثرَ من الاستغفارِ، فجاءه غلامٌ زكيٌّ كأنّه استُجيبَ له على لسانِ زكريّا. وقرأ عليّ قوله: ﴿وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾، ثم دمعتْ عيناه وقال: كلُّ من استغفرَ من حرمانٍ، وقرعَ البابَ بدموعِ الرجاء، رُزقَ ما حرمه الله عنه، لا عجزًا من الله، بل حكمةً حتى يُلحّ، فيكرمه كما يُكرمُ الضيفَ الذي أتى بعد طولِ سفرٍ. ثم تداركنا الحديثَ أبو الفضلِ البغداديّ، وكان شيخًا شابتْ لحيته على مصاحبةِ الاستغفارِ، فقال: إنّ الاستغفارَ جُنّةٌ لا تُخرق، فما نزلَ عذابٌ بقومٍ إلا وقد أمسكوا عن الاستغفارِ، فلو استغفروا، لانصرفَ عنهم كما تنصرفُ الصواعقُ عن جذوعِ النخلِ الخضراءِ. وقرأ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، ثم تنفّسَ طويلاً وقال: إذا رأيتَ بلاءً يُظِلُّك، فاستغفرْ، فإنّ الاستغفارَ ريحٌ تذرو البلاءَ كما تذرو الريحُ الهشيم. وسمعتُ عارفا يقول – وكان كلامُه كأنّه عطرٌ يُسكبُ في صَدْرٍ فارغ – إنّ العبدَ إذا استغفرَ، أُعيدَ سكُّه كما يُعادُ سكُّ الدرهمِ الزائف، فإذا هو نقيٌّ صالحٌ للميزان. وقرأ قولَ اللهِ: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾، وقال: انظرْ كيفَ لا يرضى اللهُ أن يغفرَ فحسب، بل يبدّلُ، فيجعلُ ظلمةَ الأمسِ نورَ اليومِ، وخطأَ اليدِ حسناتِ القلبِ، فما أكرمه! وكان في زمننا رجلٌ يُدعى أبا المعتزّ، أضنته الذنوبُ حتى ضاقت عليه الأرضُ بما رحبتْ، فبينا هو يتقلّبُ ذات ليلةٍ على فراشِ الندمِ، إذ سمع هاتفًا يناديه: "يا أبا المعتزّ، ألا تستغفرُ؟ فإنّ الاستغفارَ يمحو الذنوبَ كما يمحو الليلَ النهارُ!"، فانتبهَ فزعًا، وغسلَ قلبَه بكلماتٍ من نور: "أستغفرُ الله"، فما طلعَ عليه الفجرُ حتى وجدَ صدره قد انشرحَ، ورزقه قد انفتحَ، وذنوبه قد انمحتْ، كأنّها كانتْ حبرًا على ماء. فاعلم – رعاك الله – أن الاستغفارَ مفتاحٌ يُفتحُ به بابُ الغيبِ، وسُقيا تُسقى بها القلوبُ اليابسة، وسُلّمٌ تُرتقى به مدارجُ القبول، من أرادَ الغيثَ، فلينظرْ إلى السماءِ بعينِ الاستغفار، ومن أرادَ الولدَ، فليحملْ رحمَه بالرجاء، ومن أرادَ الرزقَ، فليغرسْ في قلبه نبتةَ التوبة، ومن خافَ العذابَ، فليعتصمْ بهذه الكلمةِ كما يعتصمُ الغريقُ بخشبةِ النجاة. يا مستغرقًا في الذنوبِ، يا من عجزَ عن نفسهِ فلم يجدْ مخرجًا، ألا إنّ الاستغفارَ سفينةٌ تمخرُ بك في لُجّةِ الحياةِ، فتُبلغك شاطئَ السلام، ألا تُحبُّ أن تُبدّلَ سيئاتُك حسناتٍ؟ ألا ترجو أن يُفتحَ لك بابُ الرزقِ؟ ألا ترغبُ أن تُؤمّنَ من العذابِ؟ فاستغفرْ، فإنّه نداءُ الأنبياءِ، ودعاءُ الصالحين، ووصيةُ ربِّ العالمين. رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك تمحو عني كل ذنب وتجلو كل كرب وهبني رضاك ورضوانك وعفوك وعافيتك يا أرحم الراحمين وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين. حسن بن خلف بن سعيد الريامي الأربعاء 1 ذي الحجة 1446 هجرية 28 مايو 2025 م
❤️ 1

Comments