تأملات سلوكية
May 31, 2025 at 05:14 AM
مقامة(1) تعظيم الشعائر طريق التقوى حدثني صاحبي قال: بينا أنا في ساعة صفاء وسكون، إذ هبّت عليَّ نفحةٌ من عطر المكرمات، وراودتني همّةٌ عن هتك ستر الغفلات، فحدّثتني نفسي بمقال العارفين، ونفثت في روعي بأسرار السالكين، وقالت: يا هذا، قد طاب وقت التأمل، وأزف ميعاد التفكّر، فسَلْ، تُسقَ، وتأمّل، تَنقَ، فإنّ الحكمة لا تُؤتى مستعجلًا، ولا تُنال مسترخيًا، ولا تُلقَى في حِجر من لم يتهيأ لقبضها. قلت لها: فما معنى تعظيم شعائر الله؟ وكيف نغرسه في القلوب غرسًا؟ وما آثاره في النفس والسلوك؟ وما سرّ كونه من تقوى القلوب؟ قالت: ما كنتُ أراك إلا موقنًا، ولا ظننتك تسأل عن بيّن، ولكن لعلك من القوم الذين يذوقون المعنى بعد العلم، ويسلكون السبيل بعد الفهم، فاسمع مني يا فهيم. أما الشعائر، فهي منائرُ وضّاءة، نصبها الحقُّ في أرض عباده، وجعلها أعلامًا تدل عليه، وآياتٍ من آياته بين خلقه، فمنها موقوت في الزمان، كرمضان ويوم عرفة، ومنها موقّع في المكان، كالبيت الحرام والمساجد، ومنها ما هو مأمور في الأفعال، كالصلاة والطهارة والذكر والصدق وبرّ الوالدين. وكلها – إن نظرت بعين المحبة – رموزٌ على معنى، وإشاراتٌ إلى حضرة، من عظّم ظاهرها، اهتدى إلى باطنها، ومن استخف بها، حُجب عن سرها، وما أنزل الله شعيرةً إلا لتكون لك سلّمًا إلى رضاه، ومركبًا إلى هداه. أفترى أن تعظيمها يتمّ باللسان وحده؟ هيهات، ما ذلك بمقصود، ولا هو بالمراد المنشود، بل التعظيم مِيزانٌ في القلب، يُوزن به الإيمان، وتُختبر به المعرفة، فما رأيته من توقيرٍ في القلب، فإنما هو مرآة لما في الداخل من التقوى، وفي ذلك قال الله – جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه –: ﴿ ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ﴾. ثم اعلم أن التعظيم لا يُحمل إلى القلب حملاً، ولا يُغرس فيه قسرًا، بل يُنشأ من معرفة، ويُسقى بتأمل، ويُحرَس بصحبةٍ صالحة، ويُؤتي ثماره إذا أحاطه المرء بالخوف والرجاء، والذلّ والانقياد، فمن عظّم الأذان، سارع إلى الصلاة كأن النداء نُودي في عرش السماء، ومن عظّم القرآن، تلاه بخشوع كأن الله يُكلّمه، ومن عظّم الحجاب، لبسه حياءً، لا عادة، وتقوىً، لا مباهاة. ثم تأمّل قول الحق جلّ جلاله: ﴿ ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ﴾، تَرَ كيف ربط الخير بالتعظيم، لا بكثرة العمل، وجعل المعيار قلبيًّا لا ظاهريًّا، فكأنما ينظر الله إلى ما يُكنّه المرء من توقير، لا إلى ما يُبديه من حركات. وقَلّب ناظريك في آي الكتاب، تجد أنّ الله لا يمدح أجسادًا تؤدي، بل قلوبًا تعظّم، ومن هنا كان معنى قوله: ﴿ فإنها من تقوى القلوب ﴾، أي: أنها ثمرةٌ لما استقرّ في الصدر من هيبة، ومظهرٌ لما انعقد في القلب من إجلال. وفي الخبر الصحيح أن النبي – عليه أزكى السلام وأتمّه – قال: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، فتبصّر، يا صاح، فإنك لا تُخادع من يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. فإذا عرفت هذا، فاعلم أن التعظيم يورث سكينةً تسكن بها الأرواح عند البلاء، ويقينًا يُثبت القدم في المضايق، وأدبًا يتزيّن به العبد في سلوكه، فتراه إذا رأى شعيرةً لله، رقّ قلبه، وخشعت جوارحه، واطمأنت نفسه. وسئل حكيم عن علامة تعظيم الشعائر، فقال: إذا دخل المرءُ بيتَ الله، وخلع عن قلبه ثياب الدنيا، فهو الموقر، وإذا سمع القرآن، فكأنه يسمع خطابًا من الحضرة الإلهية، فهو الموقر، وإذا نُودي للصلاة، فقام كما يقوم العبد بين يدي سيده، فهو الموقر. قلت: أحسنتَ، بل أجملتَ، فأوصني. قال: أوصيك أن تجعل كل طاعة سلّمًا، وكل أمرٍ ربانيٍّ طريقًا، وأن لا تنظر إلى حجم العمل، بل إلى من أمر به، فمن رأى الأمر من جهة الآمر، عظّم، ومن رآه من جهة النفس، استثقل. فانصرف عني وقلبي قد امتلأ من البيان ما يفيض، ومن المعاني ما يسطع، فرفعت كفّي إلى السماء وقلت: اللهم ارزقني قلبًا يعرفك، ويعظم أمرك، ويوقّر شعائرك، ويخشع في حضرتك، ويتذلل عند بابك، اللهم اجعلني من الذين إذا سمعوا الآية وجلت قلوبهم، وإذا ذُكروا بك زادتهم إيمانًا، وإذا دُعوا إلى الصلاة لم يتثاقلوا، وإذا قرؤوا كتابك رأوا فيه الجمال كله، والخير كله، والنور كله، اللهم اجعل تعظيمك أغلى في قلبي من نفسي، وأحبّ إليّ من دنياي، واجعلني ممن قلت فيهم: ﴿ فإنها من تقوى القلوب ﴾، واجعل قلبي لك وحدك، لا يُفتن بعرض، ولا يُصرف عنك بشهوة، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة. حسن بن خلف بن سعيد الريامي السبت ٤ذي الحجة ١٤٤٦هجرية ٣١مايو ٢٠٢٥م
🥹 1

Comments