تأملات سلوكية
June 6, 2025 at 12:47 PM
✨ مقامة العيد وسرّ الفداء
من مقامات السالك إلى المقام الأجلّ
خرجت وصاحبي في صباحٍ نديّ، تسير فيه الأرواح قبل الأقدام، وكأنّ النسيم قد بُعث من أنفاس الملائكة، فاستوقفني عند ظلّ نخلةٍ باسقة وقال:
— كيف تُشرق القلوب في يوم العيد كأنها قد وُلدت من جديد؟
ما إن يُقبل هذا اليوم حتى تتجلى في النفس سكينةٌ لا تُشبه إلا أول لحظة من لحظات العفو، أو آخر لحظة من لحظات الدعاء وقد انهمرت فيها دمعة الإجابة.
فقلت:
— كأنّ العيد لا يأتي وحده، بل يحمل معه نسمةً من الجنة، وخفقةً من فجر الرضا، وأنّ الله قد كتب للخلق هذا العبور من حزن التكاليف إلى فرح القبول.
قال:
— هكذا هي الأعياد في دين الله، لا تُبنى على غفلة، بل على ذكر، ولا تنبع من اللهو، بل من لبّ الطاعة، وهي في ظاهرها فرح، وفي باطنها شهادةُ رضا.
أرأيت عيد الفطر؟ يأتي بعد الصيام، فيكون فرحًا بالطاعة لا بالطعام.
أما الأضحى… فهو مقامٌ من مقامات التسليم الكبرى، لا يُدركه إلا من ذاق معنى الذبح دون أن تسيل دماؤه، وذاق معنى الفقد دون أن يُنتزع منه محبوب.
قلت:
— أليس من العجيب أن يتجلى العيد في ذروة التضحية، في حضرة الفداء؟
أليس الفرح نقيضًا للفقد؟
فقال:
— بل هما من مشكاةٍ واحدة.
في كل فداءٍ صادقٍ، تولدُ فرحةٌ جديدة.
وهل كان العيد إلا من أثر تسليم إبراهيم؟
وهل كان الكبش إلا علامةً على قَبول الله لقلبٍ ما وسِعَ إلا طاعته؟
ذبح إبراهيمُ ما تعلق به من دنيا، وذبح إسماعيلُ في نفسه التردد والخوف، فاستحقّا أن يُخلَّد فعلهما في مِلّةٍ لا تُنسى.
لهذا قال ربنا: {وفديناه بذبحٍ عظيم}، ولم يقل "بكبشٍ"، لأن الذبح الحقيقي كان في القلب، لا في الجسد.
قلت:
— لكن الناس الآن لا يرون في الأضحى إلا موائد تُمدّ، وملابس تُشترى، وأحاديث عن الأسعار، ولحوم تُخزّن!
قال بصوتٍ رقراق فيه عتب المحبّ:
— لا عليهم... فإنّ الله يحب أن يُرى أثر نعمته على عبده، ومن شكر نعمةَ العيد فقد عرف سرّها.
لكني أحدثك عن العيد كما رآه النبي صلى الله عليه وسلم،
حين وقف صامتًا، يرقب الأحباش وهم يلعبون في المسجد، ويمنع عمر من نهيهم، ويقول: "دعهم يا عمر، فإن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا".
ويقول: "ليعلم اليهود أن في ديننا فسحة".
أتدري ما الفسحة؟
أن تتسع الشريعة للفرح، كما تتسع للخوف،
وأن تُعانق الدنياَ دون أن تبتعد عن الآخرة،
وأن يكون التديّن توازنًا لا تعذيبًا، ووصلاً لا اعتزالاً.
ثم قال:
— يا صاحبي، العيد قلبٌ مُطهَّر كطهارة الثوب الجديد، العيد مقام فرح بالله، هو لحظةٌ تنكشف فيها سترات النفس، فمن وجد قلبه رقيقًا، ولسانه ذاكرًا، ووجهه بشوشًا، فقد بلّغه الله العيد حقًا.
قلت:
— وهل يكون العيد مقامًا من مقامات السلوك؟
قال:
— بل هو من أجلّها.
من عرف العيد كما ينبغي، عرف أنّ الله أقرب من الأهل، وأحنّ من كل عناق، وأوسع من كل سعة.
من عرف العيد، أحبّ لله لا لزينة، وضحك لله لا لهوًا، وأهدى لله لا رياءً.
إنه تجلٍّ من تجليات الإحسان، أن تفرح بالله، أن تقول: "ربّي هو عيدي".
كما قالت العارفة: "اللهم إن كنتَ أعطيتَ أهل الدنيا دنياهم، فأعطني رضاك".
قلت:
— كأنك تصف العيد في الجنة!
قال مبتسمًا:
— بل هو قبس منها.
ألم تقرأ قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون }؟
ذاك عيدهم،
والعيد هاهنا ظلالٌ منه، بشرى صغيرةٌ لمن انتظر عيدًا لا ينقضي، وفرحًا لا يذبل.
ثم نهضنا وقد خفّت الروح من حولنا،
وهمس صاحبي:
— إذا أردت أن تعايدَ الله، فقم إليه في السَّحر، تطهر، وقل:
"يا رب، عيدٌ بلا قُربٍ منك لا يُغنيني، وفرحٌ لا تحضره لا يسعدني".
فمن قالها صادقًا، كُتب له عيدٌ لا يزول.
🕊️ اللهم اجعل عيدنا قربًا منك، وذبحنا ذبحا لهوانا، وفرحنا فرحا بطاعتك، وسكينتنا طمأنينة بذكرك، ولقاءنا بك هو عيد الأبد.
الجمعة عصر يوم عيد الأضحى المبارك 1446 هجرية
6 يونيو 2025 م
❤️
1