
مجلة البيان
May 13, 2025 at 04:06 PM
#بين_يدي_الساعة_وقفات_تربوية
معارف شتَّى وجَهْلٌ كثير (1 - 2)
بقلم/ فايز بن سعيد الزهراني
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أشراط الساعة أن يُرْفَع العِلْم، ويَثبت الجهل»[1]. هذا حديث صحيح صريح في خفوت العلم بين يدي الساعة وتفشّي الجهل. والمقصود هو عِلْم الدين الأصيل، المأخوذ من الكتاب والسنة وعمل الصحابة -رضي الله عنهم-.
ثم إن لهذا الحديث تكملةً وألفاظًا تدلّ على امتدادات واقترانات؛ ففي هذا الحديث عن أنس -رضي الله عنه-: «إن من أشراط الساعة أن يُرْفَع العِلْم، ويَثبت الجهل، ويُشْرَب الخمر ويظهر الزنا». وفي بعض النُّسخ لصحيح مسلم: «ويُبَثّ الجهل»[2]. وفي لفظ: «إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القَيّم الواحد»[3].
وفي رواية عن أبي وائل قال: كنت جالسًا مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى -رضي الله عنهما- فقالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن بين يدي الساعة أيامًا يُرفَع فيها العلم، وينزل فيها الجهل، ويكثر فيها الهرج؛ والهرج القتل»[4].
وفي رواية أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يتقارب الزمان، ويُقبَض العِلْم، وتظهر الفتن، ويُلقَى الشُّح، ويكثر الهرج، قالوا: وما الهرج؟ قال: القتل»[5]. وفي لفظ: «وينقص العلم».
العلم الشرعي قوام المجتمعات
لقد أدرك السلف قوة العلم الشرعي في نهضة المجتمعات ورقيّها الإنساني، فعن عبد الله بن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: بلغنا عن رجال من أهل العلم قالوا: «الاعتصام بالسُّنن نجاة، والعلم يُقْبَض قبضًا سريعًا؛ فَنَعْشُ العِلْم ثباتُ الدين والدنيا، وذهاب ذلك كله في ذهاب العلم»[6]. وقد قال بعض أهل التفسير من السلف، مثل ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: ٤١]: إن نقص الأرض من أطرافها «موت العلماء والفقهاء»[7]. قال ابن عطية: «وكل ما ذُكِرَ يدخل في لفظ الآية»[8]، بوصفه جزءًا من خراب الأرض.
هذا، وإن روايات «رفع العلم» تفيد أمرين:
1- نقص العلم وازدياد الجهل قبل قيام الساعة.
2- هذه العلامة لها ما يتبعها من اضطراب ديني واختلال اجتماعي.
قال ابن هبيرة: «في هذا الحديث من الفقه أنّ قدَر الله -تعالى- قد سبق أن يكون خراب الأرض عقيب كثرة الفساد فيها، وأنه إذا رُفع العلم ووُضِع الجهل»[9].
إن هذه الروايات تدل على خطر عظيم قادم، أو ربما بدأت بوادره في الظهور من زمن، كما حكى العلماء شيئًا من ذلك، قال ابن بطال: «وجميع ما تضمَّنه هذا الحديث من الأشراط قد رأيناها عيانًا؛ فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وأُلقي الشُّح في القلوب، وعمَّت الفتن وكثُر القتل». وتعقَّبه ابن حجر فقال: «الذي يظهر أن الذي شاهَده كان منه الكثير مع وجود مقابله، والمراد من الحديث استحكام ذلك حتى لا يبقى مما يقابله إلا النادر، وإليه الإشارة بالتعبير بقَبْض العلم فلا يبقى إلا الجهل الصِّرف. ولا يمنع من ذلك وجود طائفة من أهل العلم؛ لأنهم يكونون حينئذ مغمورين في أولئك، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن ماجه بسند قوي عن حذيفة قال: «يُدْرَسُ الإسلامُ، كما يُدْرَسُ وشْيُ الثوبِ، حتى لا يُدْرَى ما صيامٌ، ولا صلاةٌ ولا نُسُكٌ ولا صدَقَةٌ، ويُسْرَى على كتابِ اللهِ في ليلةٍ، فلا يبقى في الأرضِ منه آيَةٌ، وتبقى طوائفٌ من الناسِ؛ الشيخُ الكبيرُ والعجوزُ يقولونَ: أدركْنا آباءَنا على هذِهِ الكلِمَةِ، يقولونَ: لا إلَهَ إلَّا اللهُ، فنحنُ نقولُها»[10]. ثم قال ابن حجر: «والواقع أن الصفات المذكورة وُجِدَت مباديها من عهد الصحابة، ثم صارت تكثر في بعض الأماكن دون بعض. والذي يعقبه قيام الساعة استحكام ذلك كما قررته، وقد مضى من الوقت الذي قال فيه ابن بطال ما قال نحو ثلاثمائة وخمسين سنة؛ والصفات المذكورة في ازدياد في جميع البلاد، لكن يقل بعضها في بعض، ويكثر بعضها في بعض، وكلما مضت طبقة ظهر النقص الكثير في التي تليها»[11].
وتأمل ما يقترن بتفشّي الجهل وخفوت العِلْم من الفتن والبلايا والرزايا، تُدرك أن خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ليس لمجرد الإخبار وإظهار معجزات النبوة، فإن هناك تكليفًا يكمن وراء هذه الإخبارات، على صاحبها الصادق المصدوق أفضل الصلاة والسلام. قال ابن حجر: «وكأن هذه الأمور خُصَّت بالذِّكر لكونها مُشعِرة باختلال الأمور التي يحصل بحفظها صلاح المعاش والمعاد، وهي: الدِّين؛ لأن رَفْع العلم يُخِلّ به، والعقل لأن شرب الخمر يُخِلّ به، والنسب لأن الزنا يُخِلّ به، والنفس والمال لأن كثرة الفتن تُخِل بهما»[12].
الطريق إلى مجتمعات جاهلة
ألفاظ الأحاديث راوحت بين الرفع والقبض والنقص، فاعتُبِرَ البدء بالنقص والانتهاء بالرفع. ولنَقْص العلم الشرعي في المجتمعات أسباب وصُور يُعرَف بها تحقُّق الحديث؛ فمن ذلك:
- فقد العلماء:
وهو من أبرز صور التراجع العلمي، وقد جاء في ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رُؤوسًا جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأَضلُّوا»[13]. ولما سمع عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أبا هريرة يقول: «يُرفَع العِلْم» قال عمر: «أمَا إنه ليس يُنزَع من صدور العلماء، ولكن يذهب العلماء»[14].
فموت العالم يُحْدِث ثغرة في الجدار العلمي للمجتمع، فيحصل اضطراب ما، فيبحث الناس عمَّن يُفتيهم في نوازلهم وأقضيتهم فيتجرأ الجهلاء على التصدّي لهذا الشأن العلمي الكبير. وكم رأينا ممن يتطاول على العلم الشرعي بعد وفاة الأكابر من أهل العلم، ولم يجد مَن يردعه، فإلى الله المشتكى.
ويُشبه موت العلماء: عَزْلهم عن المجتمع، وعزل المجتمع عنهم، فإن العالم إذا لم يكن متداخلاً مع قضايا مجتمعه وأُمّته، فكأنه مات، ولم يُنتفع به، وتخبَّط الناس في دينهم ودنياهم، وتسبَّب ذلك في وقوع الأخطاء الكبرى.
ومن صور عزلهم: ما تقوم به كثير من الجامعات والكليات من إغراق المنتسبين للهيئات التعليمية بها في الأعمال الإدارية والأبحاث العقيمة التي لا تتصل بالمجتمع، ولا تنهض بالأمة، ولا تصنع الحلول لأزماتها، ولا تبدع في إنتاج أفكار جديدة مُؤصَّلة شرعًا، حتى إنك لربما رأيت في المدينة الواحدة عشرات من العلماء وعشرات من طلبة العلم، لكنّ المجتمعات تَفتقدهم ولا تعرفهم....
المقال https://albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=33372
🔴 من مقالات #مجلة_البيان عدد(459) لشهر ذو القعدة 1446هـ