مجلة البيان
مجلة البيان
May 16, 2025 at 05:56 PM
#قضايا_تربوية (أرشيف) إعجاز فواتح سور القرآن وخواتيمها بقلم/ د. إيمان مصطفى علي إن المتأمل في فواتح سور القرآن وخواتيمها يدرك لوناً بديعاً من ألوان الإعجاز، ذلك أنَّها جاءت بألوان من الإعجاز الذي يؤكد المراد من قوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: ٨٨]! فبالنسبة لفواتح السور القرآنية؛ جاءت في غاية البراعة، وغاية الروعة: تارةً باستهلالها بتنزيه الله وتمجيده، وتارةً بالنداء، وتارةً بالاستفهام، وتارةً بالأمر، وتارةً بالحروف المقطعة لتشويق القارئ أوْ المستمع لما سيأتي بعدها من خطاب.. إلخ. ومن يتأمل جميع فواتح السور؛ يلحظ دلالتها على مقصود السورة وأغراضها، وقد يكون واضحاً أحياناً، وأحياناً أخر يحتاج إلى نوع من التدبر والتأمل، والتفكر في استخراج تلك الدلالة. ولنتأمل هنا مناسبة فواتـح السور لما قبلها، ومناسبة فواتح السور لمقاصدها وموضوعاتها، ومناسبة فواتح السور لخواتيمها؛ كي نفقه دلائل الإعجاز القرآني، وعظمة التنزيل الحكيم! مناسبة فواتـح السور لما قبلها: انظر إلى مطالع السور، ومدى ارتباطها الشديد بما قبلها؛ فمن تدبر خاتمة سورة الفاتحة ودعاء المؤمنين ربَّهم أنْ يهديهم الصراط المستقيم، ثمَّ نظر في افتتاح سورة البقرة، حيث قال سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: ٢]، أيْ: إنهم لما سألوا الله الهداية، بَيَّن لهم سبيلها. وفي خاتمة سورة آل عمران أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [آل عمران: 200]، ثمَّ مالَ إلى الناس كافة في سورة النساء فأمرهم بالتقوى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: ١]، لأنه ليس كل الناس يستطيع الصبر والمصابرة والمرابطة، فكان افتتاح سورة النساء مناسباً لما خُتِمت به سورة آل عمران. وهكذا يمضي الترابط بين سور القرآن كلها، وكأنها سورةٌ واحدة.. وقد تجلَّى من هذا إعجاز نفسي عجيب؛ يجعل القارئ المتدبِّر مستغرِقاً في لطائف التوجيهات الإلهية، والشواهد الربَّانية، فمثلاً: اختتم سبحانه سورة الواقعة بالأمر بالتسبيح: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، ثمَّ افتتح بعدها مباشرة سورة الحديد بالتسبيح، فقال: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد: ١]! وفي سورة الفيل أخبر بما حدث لجيش أبرهة الذين أرادوا الاعتداء على البيت العتيق، وكيف أهلكهم بأصغر الطير وأضعفه: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ} [الفيل: ٥]، فجاءت بعدها سورة قريش وهي شديدة الاتصال بما قبلها؛ لتعلُّق الجار والمجرور في أولها بالفعل: {لإيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش: ١]، وقد طالبهم في هذه السورة بالإيمان بربِّ هذا البيت، وشكر: {الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: ٤]. ثمَّ أعقبتها سورة الماعون التي توعد فيها تارك الصلاة، وذَمَّ الذين لا يطعمون الطعام: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ 4 الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ 5 الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ 6 وَيَمْنَعُونَ الْـمَاعُونَ} [الماعون: ٤ - ٧].. وهكذا. من هنا نعلم أنَّ افتتاح كل سورة في غاية المناسبة لما قبلها، ولكنه يخفى تارة ويظهر تارةً أخرى، ولا يدرك ذلك إلا من رزقه الله تعالى قوة التدبُّر والتفكُّر في كتاب الله العزيز. مناسبة فواتح السور لمقاصدها: برغم أن القرآن نزل مُنجَّماً ومتفرِّقاً على ثلاث وعشرين سنة؛ إلا أنه تمَّ مترابطاً محكماً متناسقاً في بناء جُمَلِهِ وآياته لفظاً ومعنى.. لذلك تجد مطلع كل سورةٍ من سور القرآن متناسقاً متناسباً مع مقاصد تلك السورة، تنتقل فيها من آية لآية، ولا تجد تنافراً بين كلماتها أو آياتها. وهذا فن من فنون البلاغة واللغة يدل على حُسن الصياغة وتماسك البناء. والأمثلة على ذلك كثيرة وفيرة، منثورة في جميع سور القرآن المجيد، ولكن الحاذق هو وحده من يدركها ويتلمس قدرته تعالى وإعجازه فيها. قال صاحب الإتقان: «أجاب ابن الزملكاني حين سُئِلَ عن الحكمة من افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح، والكهف بالتحميد؟ بأنَّ سورة (سبحان) لمَّا اشتملت على الإسراء الذي كذَّبَ المشركون به النبيّ، وتكذيبه تكذيب للهِ سبحانه، أتى (بسبحان)، لتنزيه الله تعالى عمَّا نُسِبَ إلى نبيِّهِ من الكذب، وسورة الكهف لمَّا أُنزِلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف وتأخُّر الوحي، نزلت مُبيِّنةً أنَّ الله لم يقطع نعمته عن نبيِّهِ ولا عن المؤمنين، بلْ أتمَّ عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة»[1]. • مثــال آخَـر: سورة النور استهلَّها المولى تعالى بقوله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: ١] وقد كرَّر قوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} [النور: 46] عدة مرات؛ للتأكيد على هذه التشريعات، ووجوب الالتزام بها، فقد شرع في هذه السورة كثيراً من الأحكام والأخلاق والآداب؛ فقد حذَّر من الإفك والبهتان، ورميْ المحصنات الغافلات، ونهى عن دخول البيوت دون استئذان، وأمر بِغَضّ البصر، وتجنُّب الفواحش، وأمر بالصلاة والزكاة، وأدب الحديث مع الجناب النبوي الشريف، وقد كرَّر الأمر بطاعة اللهِ ورسولِه. • مثــال آخـر: سورة الفتح استهلها سبحانه بقوله: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: ١] وهو الفتح الأكبر، ودخول الرسول وأصحابه مكة في عزَّةٍ ومهابةٍ وجلال، وتطهيرهم الكعبة من الأصنام والأوثان، ثمَّ الثناء على المؤمنين الذين بايعوا الرسول في بيعة العقبة. ثمَّ صلاتهم بالبيت: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]. • مثــال آخر: سورة الرحمن استهلَّها الحقُّ تعالى باسمه {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: ١] الذي وهب كل هذه الآلاء والنِّعم على عباده، ليؤمنوا به ويشكروه عليها. وطالبهم بعد ذِكْر كل نعمةٍ أنْ يُقرُّوا بها ويعترفوا، وكرَّر عليهم السؤال: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13]، ثمَّ تلتها سورة الواقعة مباشرة، بقوله سبحانه: {إذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة: ١]، لأنها تتحدث عن الأهوال التي سيشهدها الناس يومئذ، والمشاهد التي سيرونها رأيَ العين، وجزاء كل فريقٍ من الناس بحسب ما قدَّمتْ يداه! مناسبة فواتح السور لخواتيمها... المقال https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=6644 🔴 من مقالات #مجلة_البيان عدد(385) لشهر رمـضـان 1440 هـ

Comments