مجلة البيان
مجلة البيان
May 24, 2025 at 04:14 PM
#نساء_من_القرآن (أرشيف) قوة الوفاء بقلم/ فايز الزهراني قص الله تعالى علينا في كتابه عن آسية بنت مزاحم امرأة فرعون رضي الله عنها في مشهدين من مشاهد الزوجية: أما المشهد الأول: فهو فرحها بالتقاط موسى الوليد واستِوهَابها إيَّاه من فرعون وتبنيها إيَّاه وتربيتها إيَّاه في قصر فرعون وأبَّهته، قال تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص: ٩] في مشـهد من مشاهد الأمومة التي فطر الله عليها النساء، فصرن بهذه الغريزة منبعاً للحنان ووجهاً لجمال الحياة. وأما المشهد الثاني: فهو ثباتها على الإيمان مع كفر زوجها وسعيه الدؤوب في الاعتداء على أهل الإيمان وحربهم وصدِّه الناس عن الإيمان وحمله إياهم على تأليهه وعبوديته، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْـجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [التحريم: ١١]. وكما أشرنا إلى بعض العبر المستفادة من المشهد الأول في المقالة السابقة، فيحسُن أنْ نبلغ تمامها في هذه المقالة، وبالله التوفيق. استقامةٌ في بيوت منحرفة: قال قتادة: «كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم فوالله ما ضر امرأتَه كفرُ زوجها حين أطاعت ربها؛ ليعلموا أنَّ الله تعالى حَكَمٌ عَدْلٌ لا يُؤاخِذ أحداً إلا بذنبه»[1]. أيْ أنَّ كل امرأة هي المسؤولة الأولى عن ديانتها واستقامتها وثباتها على ذلك؛ مهما استحكمت حولها الظروف الصعبة، ولقد كان فرعون من القوة في دفع الناس إلى الكفر بالله تعالى بمكان؛ فكيف بأهل بيته ومن هم تحت يده! لكن الإيمان عقْدٌ بين العبد وربه، عقْدٌ بين الإنسان على هذه الأرض وبين الله في السماء، عقْدٌ ليس فيه وسطاء ولا شركاء يؤخذ برأيهم في هذا العقد أو يُتطلب رضاهم فيه. إنَّ للإيمان شأن أعظم من العلاقات والروابط، فلذلك اعتنت آسية بنت مزاحم رضي الله عنها بعقدها مع الله، وأخلصت له العبودية والطاعة، وقدمتها على علاقتها بزوجها الكافر، وهي مدركة أنَّ إيمان القلب لا يستطيع أنْ ينتزعَه أحد، كائناً من كان، إلا الله تعالى. وما قيمة هذه القصور العالية الملأى بنوافذ الشر وأوعية الشهوات إذا استقر الإيمان في القلب؟ ما قيمة الأسقف المرتفعة والجدران المزخرفة والملابس المطرزة والعقود المرصعة أمام سجدةٍ لله وقيامٍ بين يديه؟ وأين تقع أصوات الغناء والمعازف المطربة من التلذذ بمناجاة الله ودعائه بأسمائه وصفاته؟ وهل تعقد المرأة العاقلة مقارنة بين هذه وتلك، بين السماء والقاع؟ فذلكم هو الإيمان بالله إذا استقر في القلب وانعقدت عليه أوردته وشرايينه، فإنه لا يتزحزح عن قلب المرأة ولو كان زوجها منحرفاً، بل ولو كان زوجها هو فرعون نفسه! لقد كانت آسية على هذا الثبات. لكن بعض الروايات تفيد أنها أخفت الإيمان بقلبها ولم تظهره حتى كُشف أمرها، كما في رواية أبي العالية التي جاء فيها: «فازدادت إيماناً ويقيناً وتصديقاً، فأطلع الله فرعون على إيمانها، فقال للملأ: ما تعلمون من آسية بنت مزاحم؟ فأثنوا عليها، فقال لهم: إنها تعبد غيري. فقالوا له: اقتلها فأوتِدْ لها أوتاداً فشد يديها ورجليها، فدعت آسية ربها فقالت: ربِّ! ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة»[2]. قال أبو هريرة رضي الله عنه: «فكشَف لها عن بيتها في الجنة»[3]. وقال سلمان الفارسي: «كانت امرأة فرعون تعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة»[4]. وإخفاؤها يأتي في السياق الطبيعي لامرأة تخشى على نفسها وإيمانها من بطش زوج جبار، ويأتي في السياق الطبيعي لامرأة ما زالت ترى للزوجية حرمتها وللبيت احترامه، فهي تصبر على البقاء في بيت الزوجية وتفي بمتطلباته الواجبة وتخفي إيمانها، ويسميها الله تعالى في القرآن باسم الزوجية، ولا تزرع الألغام في بيت زوجها لتنتقم منه لأنه يخالفها في اعتقادها؛ فكيف بما هو دون ذلك، فإنَّ بيت الزوجية مبدأ من المبادئ أهم من كونه جُدراً وأعمدة وسقفاً؛ يُظِل من الشمس ويدفع قسوة البرد ويستر من العري والانكشاف. ولما ظهر أمرها وعمد فرعون إلى تعذيبها وإلحاق الأذى النفسي والجسدي بها دعت ربها أنْ ينجيها من فتنته وعمله خوفاً على نفسها من الفتنة في الدين، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْـجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [التحريم: ١١]. فوصفها الله بالإيمان والتضرع لربها، وسؤالها إياه أجلَّ المطالب، وهو دخول الجنة ومجاورة الرب الكريم، ثم سؤالها إياه أنْ ينجيها الله من فتنة فرعون وأعماله الخبيثة، ومن فتنة كل ظالم، فاستجاب الله لها، فعاشت في إيمان كامل، وثبات تام، ونجاة من الفتن[5]. وقبض الله روحها بعد أنْ نالها من التعذيب ما نالها، وصارت مثلاً للمؤمنين في ثباتها على الإيمان في البيئات المنحرفة، ومثلاً للمؤمنات في المحافظة على بيت الزوجية بوصفه مبدأً إيمانياً وعلامة أخلاقية، ولذلك جاءت هذه الآية في سورة التحريم التي اعتنت بموقع المرأة من متطلبات الزوجية، وأشاد النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان آسية وعقلها حين قال: «كمُل من الرجال كثيرٌ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإنَّ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»[6]. الرابطة الزوجية مبدأ: لم يرد ما يفيد طلب آسية الطلاق من فرعون، وغاية ما ذُكِر هو دعاؤها بأنْ ينجيها الله منه ومن عمله، فقد فوضتْ أمرها إلى الله تعالى في أنْ يختار لها الخلاص من الزوج الكافر، ولم تلجأ إلى خيار طلب الطلاق، ذلك أنَّ بيت الزوجية له شأن عظيم، ليس في الإسلام فقط، بل في الأمم التي قبلنا ممن اتصل بها شيء من أنوار النبوة فاستفادت منه في حياتها. ألا ترى أنَّ الله تعالى وصف عزيز مصر بسيادته على زوجه حين قال: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25]. فقد كانت الرابطة الزوجية على قدر كبير عند العاقلات في تلك المجتمعات. يقول محمد رشيد رضا: «وكان النساء في مصر يُلقِّبن الزوج بالسيد، واستمر هذا إلى زماننا»[7]. وهو أدب أثبته القرآن وتعلمته أمهات المؤمنين ونساء الصحابة الكريمات، ومَن تبعهن من فضليات نساء المؤمنين.... المقال https://albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=13757 🔴 من مقالات #مجلة_البيان عدد(418) لشهر جمادى الثاني 1443 هـ

Comments