مجلة البيان
مجلة البيان
May 31, 2025 at 01:29 PM
#المسلمون_والعالم تطورات الموقف المصري تجاه غزة بقلم/ حسن الرشيدي تقف الحرب في غزة الآن على مفرق طرق. فقد وصل الصراع إلى نقطة فاصلة حرجة، خاصةً مع اقتراب مخزون غزة من الغذاء والدواء وغيرها من مستلزمات الحياة من النفاد؛ نتيجة إستراتيجية التجويع التي يُمارسها الكيان الصهيوني، في الوقت الذي فشلت فيها كلّ خططه العسكرية لهزيمة المقاومة الفلسطينية. فطوال العشرين شهرًا الماضية، عجَز جيش الكيان -المدعوم غربيًّا والمسلَّح بأحدث الأسلحة- عن الانتصار على حماس، والتي تقود حرب عصابات نموذجية ناجحة، يتحدَّث عنها اللواء احتياط بالجيش الصهيوني «يسرائيل زيف»: «حماس طوَّرت طرق قتالها، وإدخالنا قوات كبيرة لغزة لن يفيدنا». ولكن في نفس الوقت تتعالى الأصوات بين العرب والمسلمين همًّا وغمًّا، وهم يرون أمام أعينهم تساقط أطفال غزة جوعًا، فضلًا عن قتلهم بالقنابل الأمريكية. وتُلقي الشعوب باللوم على الدول العربية والإسلامية العاجزة عن إنقاذ الفلسطينيين من المجاعة والحصار الصهيوني، وتتصدَّر الدولة المصرية هذا اللوم؛ نظرًا لأنها الدولة الوحيدة التي تشترك حدودها مع غزة. فما الذي يجعل مصر عاجزةً عن نجدة الفلسطينيين وفكّ الحصار الصهيوني الظالم عن غزة، والذي يطمع في إبادة الشعب بمنع الطعام والشراب والعلاج عن أكثر من مليونَي إنسان؟ ويبدو الموقف المصري الرسمي المُعلَن هو الوقوف بحزمٍ تجاه قضية تهجير أهل غزة، ولكن هل تكون تلك الإجراءات المصرية التي اتخذتها كفيلة لوقف سيناريو التهجير؟ ولماذا تقف مصر صامتة أمام سياسة التجويع والحصار المُشدَّد، خاصةً أن تلك السياسات جزء من إستراتيجية التهجير؟ لفَهْم هذا اللغز المصري، يلزمنا إدراك طبيعة الدولة المصرية، وحَجْمها وقوتها الذاتية، خاصةً في العقد الأخير، ومِن ثَم تتبُّع سياساتها تجاه غزة وما يجري فيها. الدولة المصرية في العصر الحديث لكي نفهم السياسة المصرية في غزة، لا بد من استعراض وتحليل لبنية النظام في مصر وسلوكه السياسي بصفة عامة في القرنيين الماضيين، وهو الوقت التي بدأت ملامح الدولة المصرية الحديثة تتشكل وتأخذ صورة مستقلة عن محيطها، فيما أطلق عليه العصر الحديث. ويمكن تقسيم هذه الفترة إلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى منذ تولّي «محمد علي» ذي الأصول الألبانية الحكم في مصر، ومن بعده أولاده وأحفاده، وقد انتهت تلك المرحلة بانقلاب الجيش المصري على آخر حكام أسرة «محمد عليّ»، وهو الملك فاروق، ومِن ثَم إعلان الجمهورية؛ ليتولى زمام الأمور في الدولة ضباط من الجيش حتى يومنا هذا. في المرحلة الأولى، بدأت الدولة بظهور «محمد علي» واليًا على مصر مِن قِبَل الدولة العثمانية، اختاره الشعب المصري وفرَضه على السلطان العثماني، ثم تحوَّل إلى حاكم مستبدّ ونكَّل بمُعارضيه، وبالتدريج عمل على الاستقلال عن العثمانيين، بل حارَبهم، حتى كاد أن يُسْقِط الدولة العثمانية عندما توغَّل في الأناضول؛ لولا التدخل البريطاني، والذي أعاده من حيث جاء، ليُقِرّ العثمانيون بسلطة «محمد علي» على مصر والسودان كنوع من الحكم الذاتي تحت السيادة العثمانية الاسمية، وبتدخُّل غربي تدريجي في الحياة المصرية؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. أعاد «محمد علي» صياغة الدولة المصرية الموجودة لتكون دولة مستقلة، لها جيشها وصناعتها، واستغلال مواردها ليتم توجيهها لتكون قاعدة له لتحقيق طموحاته وأهدافه، بدلًا من أن تتَّجه موارد البلد لتكون جزءًا من الدولة العثمانية وتسهم في تحقيق أهدافها. وبعده أصبح يُطلق على «محمد علي» مُؤسِّس مصر الحديثة، وهذه المقولة كان أول مَن روَّج لها هو «محمد علي» نفسه. لقد اعتمدت إستراتيجية «محمد علي» في بنائه للدولة المصرية على أربعة أسس: العلمانية، وإذلال المصريين وإخضاعهم، والاستعانة بالأوروبيين، وإقامة مشروعات وإنجازات. فحارَب العلماء ونكَّل بهم ونفَى بعضهم، وهم الذين كانوا قد قادوا الأهالي للثورة ضد الفرنسيين عدة مرات، كما قاوموا بإزاحة الوالي العثماني، والذي عُرِفَ بظلمه وبطشه، وأرغموا السلطان العثماني على تعيين «محمد علي»، والذي تقرَّب منهم حينها. ولكنّ أخطر ما قام به «محمد علي»، واستكمله خلفاؤه من بعده، هو استبدال قوانين الشريعة بالقوانين الغربية، وتقليص دور المحاكم الشرعية، وفي النهاية جعلها قاصرة على البحث في قضايا الأحوال الشخصية من زواجٍ وطلاقٍ. وكان من بين الأوروبيين الذين استعان بهم «محمد علي» في حُكْم مصر: ضابط فرنسي اسمه الجنرال سيف، وهو الذي جمع أبناء المماليك وبعض أبناء الطبقات العليا في المجتمع المصري ليكونوا نواة لضباط الجيش المصري، فاستقدمهم إلى أسوان في أقصى جنوب مصر في مدرسة أُقيمت لذلك الغرض؛ لإبعادهم عن تأثير مجتمعهم وثقافتهم، وكان أول قرار له هو أمر هؤلاء الشباب بحلق لحاهم، ومَن يعترض يأمر بتعذيبه. أما في مجال المشروعات، فقد حقَّق «محمد علي» إنجازات غير مسبوقة، مثل تغيير نظام ملكية الأرض، واستحداث زراعة القطن، واحتكار كل المحاصيل الزراعية، وإعادة النظام الضريبي بشكل عام. غير أن الإنجازات التي حقَّقها «محمد علي» لم تَعُد بالنفع على المجتمع المصري، وخاصةً الفلاحين الذين يُشكّلون أغلبيته، ويؤكد المؤرخ المصري خالد فهمي (مؤلف كتاب «كل رجال الباشا»، والذي يؤرّخ بحيادية وعلمية إلى حدّ ما لفترة «محمد علي»)، أن عُمّال المصانع مثلًا كانوا يُعامَلُون كعبيد؛ حيث يُرْبَطُون بسلاسل في الآلات، بالإضافة إلى أن المجتمع المصري كان يحكمه نظام بوليسي صارم، ونُخْبَة شكَّلها «محمد علي»، تتكون من أعضاء أُسرته ومعارفه وطبقات أخرى لا يوجد فيها مصريون. ورغم إقراره بأن «محمد علي» نجح في تأسيس آلة عسكرية جبّارة حقّقت انتصارات؛ يقول فهمي: «إن الجهاز الإداري والدولة التي أسَّسها لم تكن قادرة على الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها جيوشه». وبلغت قمة التدخل الأجنبي في دولة «محمد علي» الذروة، في عهد أحد أحفاد «محمد علي»، وهو الخديوي إسماعيل، فقد اتصفت فترة حُكمه بالإسراف وإهدار المال العام على الحفلات وتشييد القصور وتجميلها؛ وقد بنى نحو ثلاثين قصرًا من القصور الفخمة، وبحسب كتاب (مصر في عهد الخديوي إسماعيل)، فقد بلغت تكلفة تجميل هذه القصور وتأثيثها ما لا يُحْصَى من الملايين. ويذكر موقع رئاسة الجمهورية، في الجزء الخاص بالحكام السابقين لمصر، أنّ الخديوي إسماعيل «أسرف في المشروعات النهضوية ومظاهر العظمة؛ فلجأ إلى القروض؛ الأمر الذي أدَّى إلى تدخُّل الأجانب في الشأن المصري اقتصاديًّا وسياسيًّا». بينما ذكَر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه «عصر إسماعيل» أن مسألة الديون هي الجانب المظلم من عهد إسماعيل؛ لأنها المأساة التي انتهت بتهدُّم بناء الاستقلال، وتدخُّل الدول الأجنبية في شؤون البلاد المالية والسياسية. وبعد الاحتلال البريطاني لمصر؛ حرص الإنجليز على بقاء هيكل دولة «محمد علي»، ولكنّهم سارعوا في وتيرة نشر العلمانية، وألبسوها بالليبرالية الغربية، كما أنهم أصلحوا الاقتصاد، وربطوه بما يخدم الاقتصاد البريطاني، وكوَّنُوا نخبة سياسية وفكرية ورجال أعمال متشبّعة بالفكرة الغربية، وترتبط بالمصالح مع الغرب... المقال https://albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=33427 🔴 من مقالات #مجلة_البيان عدد(460) لشهر ذو الحجة 1446هـ
❤️ 1

Comments