
مجلة البيان
June 2, 2025 at 04:18 PM
#المسلمون_والعالم
سوريا وأمنية «الاستقلال»
بقلم/ أمير سعيد
يعرف الرئيس الأمريكي أهدافه جيدًا، ولا يُجهد نفسه كثيرًا في تجميلها، فهو يتَّسم بصراحةٍ واضحةٍ فيما يتعلق بمتطلباته، ولا يُحبّذ -غالبًا- التخفّي خلف شعارات الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل يُفضِّل أن يتعامل كرجل أعمال أو تاجر حاذق يتحيّن الفرص، ليعقد الصفقات المربحة، حتى مع ألدّ أعدائه، ولهذا فهو يتمتع بجرأة كبيرة في اتخاذ القرارات، ما دام يراها في صالح مشروعه لنهضة الولايات المتحدة.
ولذا فهو لم يتردّد طويلًا في المُضِي قُدمًا في تنفيذ رؤيته الجديدة لمنطقة «الشرق الأوسط»، والتي تتلخّص في إعادة تموضع الولايات المتحدة فيها، والإفادة من نفوذها وفق سياسة مغايرة لأسلافه، ينأى فيها ببلاده عن التورُّط في الصراعات، والمشكلات الطويلة، وإنما ينزع إلى ترتيب المنطقة وفق سياسة تُركّز على تحقيق أكبر فائدة اقتصادية لبلاده، وإيكال تنفيذ تفاصيل خطوطه العريضة لحلفاء إقليميين. ويرغب كذلك في حسم القضايا، ولا يميل إلى العمل في فضاء «الفوضى الخلّاقة»، ويريد التفرُّغ أكثر لتحقيق مكاسب في سباقه الأخطر مع الصين على الأصعدة الاقتصادية والعسكرية.
وعليه؛ تبدو الصورة واضحة في عينَي ترامب فيما يتعلق بأبرز ملفات المنطقة، الخليج وتركيا و«إسرائيل» وإيران، وما يتفرع عنها من مشكلات سوريا ولبنان وغزة والسودان، وغيرها.
ولعل من أوضح ملامح رؤية ترامب للمنطقة:
- الرغبة في تبريد الملفات الساخنة.
- تحبيذ التعامل مع «الأقوياء» كضامنين ومؤثرين وضابطين للأوضاع في المنطقة، سواءٌ كانت القوة عسكرية أم اقتصادية.
- تقليص وجود وتأثير الميليشيات والفصائل.
- الوصول إلى توقيع اتفاقات «الإبراهيمية» مع دول المنطقة جميعًا، وتطبيع العلاقات بين «إسرائيل» ومحيط فلسطين المحتلّة في دائرته العربية الواسعة، ولكنْ وفق سياسة أمريكية، وليست «إسرائيلية» بالضرورة.
- إبرام اتفاقات اقتصادية تَعُود على الاقتصاد الأمريكي بالنفع.
وفي ضوء ذلك، كانت استجابته للمطالبات الخليجية والتركية والأوروبية (على الترتيب)؛ من أجل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وإعلانه أن «تلك العقوبات كانت تشلّ الاقتصاد السوري، وكانت ضرورية في وقتٍ سابق، لكن آنَ الأوان لتبدأ سوريا في التألق»؛ على حد ما صرَّح به في منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي بالرياض خلال زيارته للسعودية، منتصف شهر مايو 2025م، والتي أطرَى فيها على الرئيس السوري أحمد الشرع بشكلٍ بدا مفاجئًا للكثيرين؛ حين قال: إن الشرع «عظيم، أعتقد أنه جيّد جدًّا. شابّ جذاب وقويّ البنية، وله ماضٍ قوي. ماضٍ قوي للغاية، مقاتل»؛ حسبما نقلت صحيفتا نيويورك تايمز وواشنطن بوست.
هذه العظمة، وهذا الماضي، وهذا القتال، كان كله يُسمَّى «إرهابًا» في أدبيات حزب ترامب الجمهوري، حتى شهور قليلة مضت، لكنّ براغماتية الإدارة السورية الجديدة، غيَّرت البوصلة الأمريكية، أو ربما أظهرت وجهة واشنطن الحقيقية في الملف السوري، والتي قد لا تكون غائبة عن دهاليز صُنع القرار الأمريكي قبل أن تبدأ عملية «ردع العدوان» التي انتهت بسقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، وهي البراغماتية السورية التي فاجأت العالم بـ«مرونتها الشديدة» إزاء ملفات تتعلق بكل أعدائها وخصومها الحاليين والتقليديين، ومنح امتيازات استثمارية طويلة المدى لشركات غربية.
من بينها الامتياز الذي حصلت عليه شركة «سي إم إيه سي جي إم» الفرنسية العملاقة للخدمات اللوجستية، بتوقيعها عقدًا لمدة 30 عامًا مع الإدارة السورية في الأسبوع الأول من شهر مايو 2025م، لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية، والتوقيع المنتظَر لعقود احتكارية كذلك للشركات النفطية الأمريكية للعمل في سوريا، وما كشفت عنه صحيفة تايمز البريطانية (12 مايو)، من ترجيح تقديم الحكومة السورية «عدة تنازلات، بما في ذلك إتاحة الفرصة للشركات الأمريكية لاستغلال الموارد الطبيعية في صفقة معادن على غرار ما حدَث في أوكرانيا».
وكذلك ما انتهجته دمشق من سياسة هادئة جدًّا حيال العدوان «الإسرائيلي» على أراضي سوريا، ونَأْي مسؤولي سوريا عن توعُّد جيشهم بالانتقام من تل أبيب. وأيضًا انفتاح دمشق على العالم، خصوصًا الغرب، وتبنّيها اقتصاد السوق (الرأسمالي)، ومنحها أوضاعًا تمييزية إيجابية للأقليات الدينية والعرقية لا سيما النصيرية (8- 10% من تعداد السكان)، والدروز (1.5 -2%)، والكردية (3%) [تقريبًا ووفقًا لتقديرات أوردتها دراسة الجيش والسياسة في سوريا، المستندة إلى معطيات رسمية قبل وأثناء حكم آل الأسد].
وكما تقدم، فإن ترامب تاجر بارع، وهو قد رفَع الثمن عاليًا جدًّا لرفع العقوبات عن سوريا، والتي ما كان لها أصلًا أن تكون سلعة يُقايض بها ترامب الشرع، لو أن العالم كان عادلًا؛ فتلك العقوبات، لم تُفرَض على نظام الشرع، ولا الفصائل السورية جميعها، وحيثيات إقرارها تأسست على «فرضية» الضغط على نظام الأسد من أجل أن يَكُفّ عن إجرامه، فلم تَضُرّ نظامه بل شعب سوريا، حتى انقضى عهد الأسد، وفرَّ مُحمَّلًا بمليارات الدولارات التي نهبها، وتُرِكَت له لينعم بها هو وذريته ما امتدت بهم الحياة!
وبقي جاثوم العقوبات على صدر الشعب المظلوم، ليتم مقايضته في الأخير بما كشفت عنه كارولين ليفيت، المتحدثة باسم البيت الأبيض في بيان تلا لقاء الشرع مع ترامب، جاء فيه أن «الرئيس ترامب حدّد 5 مطالب موجّهة إلى الرئيس السوري؛ الأول هو التوقيع على اتفاقية إبراهام للتطبيع مع إسرائيل؛ والثاني مطالبة جميع المقاتلين الأجانب بمغادرة سوريا؛ والثالث ترحيل عناصر من حركات فلسطينية مسلحة؛ والرابع مساعدة الولايات المتحدة على منع عودة داعش؛ والمطلب الخامس والأخير هو تحمُّل مسؤولية مراكز احتجاز داعش في شمال شرقي سوريا».
هذا علاوة على شروط أخرى ذُكرت أو تسرّب بعضها مِن قبل، كالاحتكار الاستثماري النفطي، وصفقات المعادن، ومساهمة الشركات الأمريكية في عملية إعادة إعمار سوريا، والتقيُّد بنظام اقتصاد السوق، ومنح الأقليات حُكمًا شِبْه ذاتي.
وكأن العقوبات قد فُرِضَت على سوريا لتُوقِّع في النهاية اتفاق إذعان مع «إسرائيل»؛ تُقِرّ فيه بشرعيتها المزعومة، وتُوقّع على اتفاقية «إبراهام»، وتقيم علاقات مع «إسرائيل»، وتَطْرد ما تبقّى من فصائل فلسطينية في سوريا، وتُدير ظهرها لرفقاء سلاح الثورة.
وهذا كله هو ما كشف عنه الجانب الأمريكي، وما تريَّث أو تحفَّظ الجانب السوري عن البوح به، ولكنّ ترامب نفسه قد صرَّح به، والعهدة على الراوي؛ حيث قال لصحفيين على متن الطائرة الرئاسية أثناء توجُّهه إلى الدوحة «قلت له (الشرع): آمل أن تنضمّوا (إلى اتفاقية إبراهام) بمجرد أن تستقر الأمور، فقال: نعم. لكنّ أمامهم الكثير من العمل».
ويبدو أن ترامب يكذب فيما قاله؛ فجملة من المؤشرات تدلّ على أن القيادة السورية تدرك تمامًا أن فكّ الحصار عن سوريا، اقتصاديًّا، والاعتراف بها كسلطة أمر واقع، وحلّ المعضلات الكردية والدرزية والنصيرية، لا بد أن يَمُرّ عبر تل أبيب؛ ولهذا كان الحديث الصوتي لمدير العلاقات العامة في وزارة الإعلام السورية علي الرفاعي، على قناة كان «الإسرائيلية» الرسمية، الذي أعلن فيه عدم ممانعة بلاده من عقد اتفاق سلام مع «إسرائيل»، وأصبح بذلك أول مسؤول سوري يتحدث مع إعلامي «إسرائيلي» من عام 1948م، وما رشح عن لقاءات تمت بين مسؤولين سوريين و«إسرائيليين» في دولة حليفة لـ«إسرائيل».....
المقال https://albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=33430
🔴 من مقالات #مجلة_البيان عدد(460) لشهر ذو الحجة 1446هـ