
مجلة البيان
June 4, 2025 at 04:20 PM
#قضايا_دعوية
تأملات في سورة الإسراء
بقلم/ د. ماهر خاطر
تمر الأمة الإسلامية بمرحلةٍ احتدَم فيها الصراع مع اليهود المنتسبين زورًا إلى التوراة ونبيها الكليم موسى -عليه السلام-، ويجدر بنا أن نتأمل في تلك المرحلة في سورة الإسراء؛ لأنها تناولت تجربة فريدة من تجارب بني إسرائيل في إقامة الدولة والحكم، ولأنها نزلت في مرحلةٍ احتدَم الصراع فيها بين الإسلام وخصومه في مكة، لا سيما بعد وفاة سنَدَيْه الخارجي والداخلي المتمثلين في عم النبي أبي طالب وزوجه خديجة -رضي الله عنها-، ونالت قريش منه ما لم تنله قبل ذلك، فأسرفوا في إيذائه، ووقفوا عقبةً كؤودًا في طريق الدعوة، فضاقت مكة به ذرعًا، فيمَّم وجهه نحو الطائف ومعه حِبّه ومولاه زيد بن حارثة؛ عسى أن يجد فيهم مَن يستجيب للحق، لكنَّ القوم كانوا لئامًا؛ فلم يستجيبوا له، وأغروا به سفاءهم وعبيدهم؛ يرمونه بالحجارة حتى أدموه، وعاد إلى مكة مهمومًا محزونًا.
وعقب هذه الشدائد والآلام كانت رحلة الإسراء والمعراج، وبعدها نزلت سورة الإسراء؛ تثيبتًا وتكريمًا وتسريةً للنبي ولمن معه من المؤمنين، وفي الوقت ذاته ترسم قوانين النصر والهزيمة.
بين يدي السورة
هذه السورة مكية، آياتها بلغت إحدى عشرة ومائة آية في عدّ أهل الكوفة، وفي ترتيب النزول موقعها بعد سورة القصص، وقبل سورة يونس، وفي ترتيب المصحف تقع بعد سورة النحل، وقبل سورة الكهف، وترتيبها السابعة عشرة في المصحف العثماني، والخمسون في ترتيب النزول.
ومن يتأمل فيها يرى أن موضوعها المحوري هو الكتاب السماوي المتمثل في الوحي الإلهي على مر الأجيال، وفي القلب منه القرآن الكريم -كلمة الله الأخيرة إلى قيام الساعة-.
كما أنها تناولت عدة أنواع من الكتب؛ منها: كتاب موسى «التوراة»، وكتاب الله الأزلي القديم «اللوح المحفوظ»، وكتاب الله الأخير «القرآن الكريم»، وكتاب الحسنات والسيئات.
كما تحدثت السورة الكريمة عن تجربة بني إسرائيل في إقامة الحُكْم المُؤسّس بالوحي والمؤتمن عليه، وعن حتمية الصراع بين اليهود والمسلمين، ورسمت طريق النصر، وسننه الإلهية التي تتحكم في قوانين النصر والهزيمة على مر العصور وكَرّ الدهور؛ لتبقى ماثلة أمام المسلمين في كل جيل، ويتحقق لهم النصر على أعدائهم العتاة ما تمسكوا بها، فاشتملت على الحديث عن العقيدة والعبادة والسلوك والأخلاق وطبائع الإنسان التي يجب أن يتخلَّى عنها، إلى غير ذلك من نواميس قيام الممالك وزوالها.
وسُمِّيت السورة الكريمة بعدة أسماء؛ أشهرها اسم الإسراء؛ لما تضمنته من الافتتاح بالحديث عن معجزة الإسراء، وهي آية كبرى تملأ القلب باليقين والثبات، وتؤكد قداسة الأرض التي انتهى إليها الإسراء، وتُعْلِي قَدْر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وتُسمَّى سورة بني إسرائيل؛ لتعرُّضها لتجربة من تجارب بني إسرائيل في الحكم وإقامة الدولة؛ لم تُعرَض إلا في هذه السورة الكريمة.
وتسمى أيضًا سورة سبحان؛ لضخامة الحدث العظيم المتمثل في رحلة الإسراء، وما وقع فيها من الآيات والعجائب التي تدل بوضوح على عظيم القدرة الإلهية.
تأملات في السورة الكريمة
افتُتحت السورة بالحديث عن معجزة الإسراء التي ابتدأت من المسجد الحرام، وانتهت بالمسجد الأقصى، ومن يتأمل في فترة وقوع الإسراء الزمنية يجدها وقعت في فترةٍ اشتدَّ الخناق فيها على النبي ودعوته ومن ومعه، وبلغ الإيذاء مَداه، فجاءت هذه الرحلة المباركة مسحًا لآلام الماضي، وتثبيتًا لآمال المستقبل، قال تعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].
ومن يتأمل الآية الكريمة يجد أن الرحلة ابتدأت بمسجد وانتهت بمسجد، ولا يخفى ما فيه من الإشارة إلى دور المسجد في الانطلاق والاستخلاف في الأرض، وتحقيق الوراثة الدينية والدنيوية وتثبيت دعائمها، والربط بين المسجدين يشير إلى ربط عقائد التوحيد ببعضها من لدن إبراهيم -عليه السلام-، حتى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وانتقال مسؤولية الكتاب السماوي ووراثة النبوات من بني إسرائيل إلى أُمَّة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لكون بني إسرائيل لم يُحسنوا حمل أمانة الاستخلاف.
ثم انتقل السياق للحديث عن بني إسرائيل مباشرة، ذاكرًا تجربة من تجاربهم مع الوحي الإلهي-الكتاب السماوي-، وإقامته منهجًا في الحياة؛ لأن التوراة جاءت دِينًا ودُنيا، مع تنصيصٍ واضح على ذِكْر الكتاب السماوي والعبودية في قوله تعالى: ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا 2 ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 2-3].
ومن ينظر في حال بني إسرائيل يرى أنهم ما رعوها حق رعايتها، بل وقع منهم الفساد والإفساد والعلو والاستكبار، فعُوقبوا بزوال دولتهم، وتسليط الأجنبي عليهم، فأذاقهم الويلات؛ لأن الدول والممالك إذا اختلت أمورها احتُلَّت أرضها، وهذا درس يجب أن نَعيه نحن -المسلمين- بالذات، وهو سُنّة من السنن الإلهية الماضية إلى يوم القيامة؛ فإن مَن ابتُلي بوراثة الرسالة والوحي يجب عليه أن يرعاها حق رعايتها، ولا يظنّن أنها عرض قريب أو سفر قاصد، أو مغنم دنيوي، وإنما هي مسؤولية وأمانة، ومنهج تطبيق، وتطبيق منهج، وإلا زالت ودالت؛ قال الله تعالى: ﴿وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا 4 فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا 5 ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا 6 إِنْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا﴾ [الإسراء: 4-7].
ولسنا بحاجة أن نبحث عن المرة الأولى والثانية، ويكفينا قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا﴾، وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾، فمن أفسد لم يصلح لحمل أمانة الاستخلاف، وانتقلت لغيره ومن هو أولى بالإصلاح، وهو ما أومأ إليه قوله تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: 3]، قال السعدي: «ففيه التنويه بالثناء على نوح -عليه السلام- بقيامه بشكر الله، واتصافه بذلك، والحثّ لذريته أن يقتدوا به في شكره، ويتابعوه عليه، وأن يتذكروا نعمة الله عليهم إذ أبقاهم واستخلفهم في الأرض وأغرق غيرهم»...
المقال https://albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?ID=33421
🔴 من مقالات #مجلة_البيان عدد(460) لشهر ذو الحجة 1446هـ