الكتاب الشهري
May 31, 2025 at 10:27 AM
*﴿لَقَدْ خَلَقْنا الْإنسانَ في كَبَدٍ﴾:*
قال ابن الجوزي رحمه الله:
تأملتُ قوله عز وجل: *﴿لَقَدْ خَلَقْنا الْإنسانَ في كَبَدٍ﴾،* فنظرتُ في التفسير، فقالوا: في شدةٍ، يُكابِدُ شدائدَ الدنيا والآخرة.
*فرأيت أن الآدمي مُعرَّضٌ للمِحَن الدائمة المُتَّصِلة، فإن لم يَجبُرْه الله بالجنة، وإلا اتَّصَلَ التعذيبُ:*
- فإنه حين يكون في بطن أمه *يتأذَّى بروائح المطعومات*...
- فإذا وُضِعَ... *عانى الشدائد في حَلِّه وشَدِّه، ومَشرَبِه ومأكولِه، ولقي البرد والحر،* تارةً يُحبَسُ البولُ، وتارةً يَمتنِع الغائطُ، وتارةً يُسهِلُ، فيُعاني من كل ذلك شدةً.
- فإذا أَلِفَ الثديَ، *فُطِمَ، فعانى الفراق الصعب للمألوف.*
- وكلما دَبَّ وقع، وكلما قام سقط، *فإذا استقام مشيُه، جاءه الحصبى والحُمَّى والجُدَري والخِتان.*
- فإذا سلم وتهيَّأ لِلَّعب مع أقرانه، *حُمِلَ إلى معلم القرآن والخط، فحُصِرَ وحُبِسَ عن أغراضِه، وضُرِبَ.*
- فإذا قارَبَ البلوغَ، *حُمِلَ إلى الدُّكَّان وتعلم المَعاشَ.*
- فبينا هو كذلك، *أزعجه من باطنه توقان الشهوة، فعانى شدةً حتى زُوِّجَ.*
- فما أبصَرَ بين يديه حتى *جاءه ولدٌ، فحمل من همومه وغمومه والكَدِّ عليه ما أنساه نفسَه.*
- فبينا هو مُنهمِكٌ في الكَدِّ على العائلة، فقد استغرقَه ذلك، وشَغَلَه عن نيل شَهَواتِه، *لاح الشَّيْبُ، فتنغَّص العيشُ، وانقطعت الآمالُ، وعلم قرب الفراق لكل محبوبٍ.*
- فإن عُجِّلَ اختلاسُه، وإلا *وقع في تيار الضعف، فمَلَّه أهلُه، وقَلَاه محبوبُه، وتضجَّرَ منه ولدُه.*
هذا، وفي طَيِّ مراحلِه التي ذكرناها من الغموم والهموم والحَسَرات على فوات الأغراض، ما يزيد وينقص على مقدار علو الهمة ونزولها.
ثم *في فراقِه للوالدين والأولاد والأقران والإخوان ما يَقصِم ظهرَ العيش.*
*فما يفتح عينه ليُبصِرَ راحةً، إلا ويَدُ التنغيص قد طرقَتْ ذاك الجفن.*
*فالمسكين مَن ساكَنَ الدنيا أو مالَ إليها بقلبه، وهل هي إلا مَعبَرٌ أو يوم رُزْءٍ وحادي؛ فليصبر على مدة المشقة، وكأنْ قد انصرمت.*
وكل الخاسر مَن باعَ الباقية بهذه الفانية النغصة،
*والسعيد مَن عرف الدنيا حقَّ معرفتِها، وأنها قنطرةٌ للعبور؛ فتأهَّبَ للجَوازِ، واستظهَرَ في الزاد للرحيل إلى النعيم الدائم الذي لا يبقى معه أثرٌ لِما لقي.*
*ولا خيرَ في عيش امرئٍ لم يكن له*
*مــع الله فــي دار الـقـرار نـصـيـبُ*
*فإن تُعجِبِ الدنيا أُناسًا فإنها*
*مـتـاعٌ قليلٌ والـزوال قـريـبُ*
صيد الخاطر (ص ٤٣٥ - ٤٣٦).
👍
❤️
5