
الدكتور علي زين العابدين الحسيني
May 17, 2025 at 02:43 PM
فقيد #الشافعية بجازان
مما يغفل عنه كثيرٌ من طلاب الشافعية تلك الضوابط والقيود والتعريفات المنثورة في بطون الحواشي، والتي جاءت منظومة في أبيات متناثرة، فهي لا تقلّ نفعًا عن المنظومات المشهورة التي اعتاد الطلاب استظهارها عن ظهر قلب؛ كـ”صفوة الزبد”، و”نظم العمريطي”، و”البهجة الوردية”.
وهذه المنظومات -على أهميتها- لا تُغني عن تلك الشواهد المتفرقة في حواشي المتأخرين؛ كالبيجرمي، والجمل، والشرقاوي، والباجوري، وقد قلّ حرص الطلاب اليوم على حفظها وتتبّعها.
وقد كان شيخي الحافظ الفقيه المعمر علي أحمد موسى كاملي (ت 1437) -شيخ الشافعية في جازان- يعيب عليّ في هذا التقصير، خاصة حين كنت أقرأ عليه “المنهاج الفرعي” للإمام النووي، فكان أثناء الشرح يستحضر جملة من هذه الأبيات، ويبدأ بالبيت الأول انتظارًا مني أن أُكمل، ثم لما وجد مني تقصيرًا، نصحني نصيحة صريحة: "أن أجمع هذه الشواهد في دفتر خاص، وأعتني بحفظها".
وحدّثني أنه في شبابه –ولم يكن قد جاوز العشرين– كان قد حفظ برعاية والده شواهد “شرح القطر”، و”شرح الشذور”، و”ابن عقيل” و"الأشموني" و"أوضح المسالك"، وسائر الأبيات التي وردت في حواشي الفقه، وظلّ يراجعها حتى آخر عمره، وكان يحفظ في كل باب من أبواب الفقه ما يناسبه من شواهد، إلى جانب المتون العامة الفقهية؛ كـ”زبد ابن رسلان”، و”نظم العمريطي”، وغيرها.
كان أستاذُنا المرحوم آيةً في الحفظ، لا يُجارى ولا يُلحق. فربما سرد في المجلس الواحد مئتي بيت من “زبد ابن رسلان” دون توقف، ومثلها من “ألفية ابن مالك”، وقد سمعته بنفسي في جلسة واحدة يسرد من حفظه “الخريدة البهية”، و”الشيبانية”، و”جوهرة التوحيد”، و”الرحبية”، وكأن هذه المتون كتابٌ مفتوح بين يديه.
حتى في أواخر عمره، إذا أفاق من غيبوبته، بدأ يسرد مئة بيت من “الزبد” دون أن يخطئ في حرف، وظل قلبه معلّقًا بالعلم حتى في ضعفه.
وقد أخرج لي في أول زيارة له نسخة “مجموع مهمات المتون”، المشتمل على ستة وستين متنًا في مختلف الفنون والعلوم بطبعته الحلبية الشهيرة، ممزقة الأطراف من كثرة المراجعة، وحدثني أنه حفظها كاملة في ريعان شبابه، وغيبها على والده، وما زال يراجعها شهريًّا، ويستحضر منها عند كل مسألة ما يناسبها من نص أو شاهد، مما يدهشك لقوة حفظه وشدة عنايته بالعلم.
وبرحيل هذا العلامة والفقيه المحقق انكسر ضلعٌ من سند العلم، ومن رؤوس الشافعية بجازان بقيتهم، وغاب من بيننا شاهدٌ حيّ على زمن الحفظ والدراية، فترمّلت المجالس الفقهية من بهائه، وتُيتمت المتون من حافظٍ كان لها أبًا ووليًّا.
وحين جاء خبر وفاته شعرتُ أن العلم ذاته قد نُعي إلينا، لا لأنه مات، وإنما لأن روحه التي كانت تُورّث في الصدور قبل السطور قد غابت، ومن كان يُحيي رسومه بنور الفهم والحفظ أُسدل عليه ستار الغياب.
لكن تظل تلك الكلمات التي نكتبها عنه من حين لآخر زادًا روحيًّا نستمدّ به العزم على استكمال طريقه، ونورًا تقتدي به الناشئة في زمن قلّ فيه المثل، لأننا حين نكتب عن العظماء، فإنما نحيي في أنفسنا الأمل، ويكفينا شرفًا أننا تصفّحنا وجوههم، ولامسنا أنفاسهم، على رجاء أن ينهض من بعدهم من يستكمل المسير بعزيمة تماثل عزيمتهم.
وأما نحن، فإن عزّ فينا ما كان فيهم، فحسبنا أن نكون واسطةً في الذكرى، جسرًا بين الأثر والجيل، نحدّث عنهم، وننقل أخبارهم، لعلّ الله يكتب لنا بذلك نصيبًا من ميراثهم، ولو من بعيد.
رحمه الله، وغفر له، ورفع منزلته، ونفعنا بعلومه في الدارين. آمين.
#المذهب_الشافعي #شافعيات