الدكتور علي زين العابدين الحسيني
الدكتور علي زين العابدين الحسيني
May 26, 2025 at 12:34 PM
سلاسل النور! #دعلي_زين_العابدين_الحسيني تبقى من الذكريات العزيزة على قلبي ما رواه لنا أستاذي المؤرخ الراوية الدكتور #محمد_رجب_البيومي –رحمه الله– عن هذا المجلس الحديثي المهيب الذي حضره في مطلع شبابه، ولا يزال يذكره إلى آخر أيامه بهيبة لا تنطفئ وتقدير لا يذبل، وكان يحدث عنه كلما ذُكر العلم ووقاره، فيقول: “لا يزال مجلس الحديث بدار الشيخ يوسف الدجوي يملأ نفسي جلالًا وهيبة وخشوعًا، وأتمنى أن يعود هذا التقليد العلمي المفيد”. وكان ذلك يوم قدِم إلى القاهرة العلامة الكبير الأستاذ عبد القادر المغربي -نائب رئيس المجمع العلمي بدمشق وعضو مجمع اللغة العربية- فجمعتهما المعرفة، وأحب أن يصطحب معه ذلك الشاب الأزهري النابه الشغوف بالعلم إلى لقاء بعض العلماء. ركب الأستاذان السيارة، ومضت بهما تشق طرق القاهرة حتى جاوزت العمران إلى أطراف عزبة النخل، وهناك توقفت أمام دار صغيرة هادئة، ترجلا عندها ودخلاها بأدب العلم وخشوعه، حتى بلغا مجلسًا مشبعًا بالسكينة، ترفرف عليه مهابة لا توصف. رأى أستاذي حينها مشهدًا لم يعتده من قبل، مجلس حديث يُقرأ فيه كتاب “الموطأ” للإمام مالك، يجلس فيه الشيخ يوسف الدجوي على كرسيه، متربعًا في صمت ووقار، وتحت يديه قارئ موقر يتلو الكتاب بصوت خافت، يُناجي بتلاوته الزمن. دام المجلس نحو ساعة، ختم القارئ قراءته، صافح الشيخ وانصرف في أدب، ثم انصرفا كذلك بعد أن قبّلا يدي الشيخ الكبير، كما هي عادة أهل العلم في مصر حين يوقّرون الكبار. خرج أستاذي من المجلس ساكن النظرات، لا يكاد يتكلم، وقد هزّته تلك اللحظة العميقة، فلما رأى الأستاذ المغربي تساؤله الحائر قال له: “ألا تعرف فضيلة العالم يوسف الدجوي؟! ثم ألست على معرفة بوكيل المشيخة الإسلامية، الشيخ محمد زاهد الكوثري؟!” ثم شرح له مغزى هذا المجلس، وقال: إن الغرض منه حفظ سلسلة الإسناد إلى الموطأ، فإن الدجوي يرويه عن شيخ الأزهر سليم البشري، عن خطيب الجامع الأزهر إبراهيم السقا، عن الشيخ الأمير الصغير، حتى يصل السند إلى الإمام مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وكان ذلك المجلس لحظة من لحظات العلم الحي، الساكن في هيئته، الجاري في معناه، لحظة ظلّ أستاذي يذكرها طوال حياته بخشوع، من باب الإيمان العميق بأن هذا الدين لم يُحمل إلا في صدور رجال، ولم تُنقل علومه إلا بسلاسل من نور، وتلك سلسلة من سلاسله الذهبية المتصلة من أطراف القاهرة إلى أعماق التاريخ! وكان أستاذي الدكتور البيومي كثير الأسف على غياب هذه التقاليد الحديثية في زماننا، لا سيما قراءات كتب السنة في المساجد الكبرى، وكان يتكلم بتلهف عن رغبته أن يرى مجلسًا للحديث في الجامع الأزهر أو نحوه من المساجد الكبرى. وكتب مرة عن مجلس وقور كان يُقرأ فيه صحيح البخاري على الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، وكان يتحسر على اندثاره، ويتمنى عودته. ومات أستاذنا قبل أن تُبعث في مصر تلك الروح من جديد، ولم تنشط بعدُ مجالس إقراء الحديث كما كان يتمنى. واليوم حين أرى إعلانًا لقراءة جزء حديثي في الجامع الأزهر، أو خبرًا عن مجلس من تلك المجالس التي تروي العلم بالسند، تفيض نفسي بالفرح، حتى ليخيل إليّ أن روح أستاذي البيومي تحوم من حولي مسرورة، فأستغرق في الخيال كأنني أراه من وراء الغيب ممسكًا بقلمه، يكتب عن هذه المجالس في "الرسالة الزياتية" ويؤرخ لها بلغته الجليلة. وأنا أرجو من الله أن تتتابع هذه المجالس المباركة بمزيد من الدراية والرعاية، حتى تكتمل بها جهود العلم، وتُعاد بها صلة السند بين الأحياء والأموات.

Comments