
الدكتور علي زين العابدين الحسيني
June 5, 2025 at 04:18 AM
#نهاية_المحتاج 2
نقدُ كلام السيد عمر البصري في شأن "نهاية المحتاج" للإمام شمس الدين الرملي يتطلب تمييزًا دقيقًا بين “الاستفادة” و”الاعتماد” المحض، وبين “المماشاة” و”التبعية”، وبين “الاتفاق” و”النسخ”، وهي أمور كثيرًا ما تشتبه على من لم يطِل التأمل في مناهج الفقهاء المتأخرين.
فالسيد عمر حين قال: إن الإمام الرملي “يماشي الخطيب الشربيني ويضيف من التحفة”، ثم “يماشي التحفة ويضيف من غيرها”، قد يُفهم كلامه عند البعض على أن شرح الرملي قائم في جوهره على اقتباسات من شرحيهما، لكن هذا التوصيف بحاجة إلى تدقيق؛ إذ إن مجرد وجود التشابه في العبارات أو التوارد في الأقوال لا يستلزم أن الرملي أخذ شرحه منهما بمعنى النقل الحرفي أو التبعية المنهجية. فثمة فرق جوهريّ بين مَن يستفيد مما سبق مع نظر وتحقيق، وبين من ينقل دون مزيد إعمال نظر أو تحرير جديد.
والقول بأنه “يماشي” فيه إطلاق يحتاج إلى تقييد: فإن كان المقصود به التماثل في الألفاظ والمباحث، فهذا أمر لا يقدح في الرملي ولا يدل على تبعيته، وإنما هو شأن كثير من المتأخرين الذين بنوا على تراث شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وكتبه كانت الأصل المعتمد الذي يرجع إليه الجميع. فمن الطبيعي أن يتلاقى الخطيب وابن حجر والرملي -وغيرهم– في فروع كثيرة، بل وفي التعبير عنها أحيانًا، ما دام المصدر الأصلي واحدًا.
وإن الإنصاف يقتضي أن يُنظر في منهجية الرملي في شرحه، فهي تمتاز بضبط العبارة، وتحري الترجيح، وعناية بالنقل عن المحققين، بخلاف ما نجده في “مغني المحتاج” الذي يجنح إلى حسن الترتيب وسلاسة العبارة، أو في “تحفة المحتاج” الذي يميل إلى التحريرات الدقيقة والتفصيلات المتشعبة.
ولا يغيب عن أهل التحقيق أن الفقهاء المتأخرين يأخذ بعضهم من بعض، ويشتركون في مصادرهم، وهذا الاشتراك لا يعيبهم ولا ينقص من جهدهم، وإنما يدل على وحدة المسار الفقهي في المدرسة الواحدة.
وقد وقع مثل هذا التوارد في علوم أخرى، ولا سيما في النحو، ومن شواهد ذلك في المتأخرين مما اشتهر وأخذناه عن بعض مشايخنا ما وقع للشيخ محمد الأنبابي والشيخ سالم بو حاجب التونسي، إذ كانا يدرسان شرح الأشموني على الألفية كلٌّ في بلده، الأول بالأزهر والثاني بجامع الزيتونة، وكتب كل منهما تقريرات على الحاشية، حتى إذا اطلع بو حاجب على ما صنفه الأنبابي رأى التطابق الكبير بينهما، فعدل عن نشر كتابه اكتفاء بما طُبع، إذ رأى أن القول واحد وإن اختلفت البلاد والمعاهد.
فمن أراد أن يستدلّ بكلام السيد عمر البصري على أن الإمام الرملي “أخذ” شرحه من غيره، فعليه أن يفرّق بين مطلق الاستفادة والتحقيق المتقن، وبين الأخذ المجرد والتقليد، ويعلم أن التشابه اللفظي لا يعني التبعية في المنهج، ولا يسوغ إغفال شخصية الرملي الفقهية وخصائص شرحه في التحرير والترجيح.
ولا ريب أنّ العدل والإنصاف يقتضيان أن يُعدّ “نهاية المحتاج” مع ما ذكرنا من تواتر قراءة جماعية لفقهاء عصره من أهم الشروح المستقلة في فقه الشافعية، لا تابعًا ولا اختصارًا، لكن بناءً مؤصّلًا وإن وافق فيه غيره في بعض المواضع، وذلك هو دأب العلماء الراسخين.
ومما يعزز هذا الفهم أن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري نفسه -وهو الأصل الذي يرجع إليه كثير من المتأخرين- كان كثيرًا ما يختصر عباراته في “شرح المنهج” وغيره من كتاب "كنز الراغبين"، ومع ذلك لم يقل أحد إن “شرح المنهج” أخذه من غيره، أو إنه مجرد تلخيص لا يُعتد به، أو إنه عالة على غيره، وإنما اتفق العلماء على أنه كتاب معتمد، واستقلّوه بالتقدير، مع علمهم بمصادره، إدراكًا منهم للفارق بين الإفادة والتحقيق وبين التكرار.
فالرملي إذًا ليس بدعًا في منهجه، وإنما هو سائر في درب مدرسة فقهية متكاملة، تبني وتُراكم، وتعتمد وتُحرر، والاتفاق بين شرحه وشرح الخطيب أو ابن حجر لا يخرج عن أحد ثلاثة أوجه:
1. اشتراك في المصدر كما بيّنا من عودهم جميعًا لكتب شيخ الإسلام زكريا الأنصاري.
2. توارد علمي ناشئ عن وحدة المدرسة والتصور الفقهي والاصطلاح والقوة العقلية وتقارب الزمن.
3. استفادة نقدية واعية لا تلغي الجهد الذاتي في الصياغة والترجيح والاختيار.
ومن ثم، فإن النظر في منهج الرملي يجب أن يكون في ضوء هذا الفهم الشامل، لا من زاوية التشابه اللفظي أو الاشتراك في المباحث، وإلا لجاز أن تُنفى الأصالة عن معظم كتب المتأخرين، وهو خلاف التحقيق والإنصاف.