د. محمد عبدالله العتيبي
د. محمد عبدالله العتيبي
June 2, 2025 at 05:41 PM
قوة الشهرة إنما تكون لمن بالغ في إخفاء نفسه: قال ابن الجوزي رحمه الله: قوة الشهرة بكثرة إخمال النفس. وشرْح هذا: أن مَن قصد إخمالَ نفسه أظهَرَها الله، ومَن قصد إعلاءَها خَفَضَها، وكلما قوي إخمال الإنسان لنفسه زاد اشتهارُه بين الخلق بالخير، كالعود كلما تكاثفت الثياب عليه اجتمعت ريحُه، فإذا فُتِحَ له بابٌ يسيرٌ جاد الريح، وفي الحديث: «مَن تواضَعَ لله رَفَعَه الله»... وهذا؛ لأن مَن قصد الإخمالَ رضِي بنظر الحق إليه وحده، فتحققت له العبودية؛ إذْ قد جمع هَمَّه في مراضي مولاه فحسب، ومَن أراد أن يُذكَر بالخير فقد جعل لنفسه حظًّا من التعبد، فهو من جنس الشرك، والمِسك الأذفر الخالص لا يكون كالمغشوش. ولهذا المعنى رفع الله الذين بالغوا في إهمال نفوسهم: فهذا ابن المبارك يقول: "لا يُكتَب كلامي! ومَن أنا حتى يُكتَب كلامي؟!". وهذا أحمد بن حنبل يَنهى عن كتابة كلامه، فقَلَّ أن تقع مسألةٌ إلا وله فيها نصٌّ؛ لأنه بدَّد مجموع ذكر نفسه بجمع ذكر ربه، لئلا يقع في السلك شركٌ، فجمع له الحق ما بدَّد لأجله البركة، فصار مذهبُه مُدوَّنًا أكثرَ مِن تدوين مَن دوَّن مذهبَ نفسِه. فاللهَ اللهَ! في فضل الإخلاص؛ فإنه الكبريت الأحمر، وكان أحمد بن حنبل يقول: "ما رفع اللهُ القومَ إلا بالإخلاص"، وقال: "ما رفع الله ابنَ المباركِ إلا بخبيئةٍ كانت له"، وقد روينا عن ابن المبارك أنه قاتل في صف الكفار، فقَتل خلقًا وهو مُغطى الوجه؛ حتى لا يُعرَف، وكان يبكي ولا يُدرَى به. وقد قلتُ غيرَ مرةٍ: إن مَن أراد إقبال القلوب إليه بالمحبة؛ فليقصد وجه الله بعمله؛ فإن القلوب بيده، وإيصال المُستنشَق إلى المُستنشِق من جملة صنعتِه، فمَن فاحت منه روائح الإخلاص وجد الناس طيب في مُستنشَقاتِهم، فأَحَبُّوه، وإن كان لا يَلتفِت إليهم؛ شغلًا بمَن اشتغل به. نسأل الله ﷻ إخلاصًا يُفرِدُنا به، إنه كريمٌ مُجيبٌ. صيد الخاطر (ص ٤٥٥ - ٤٥٦).
👍 ❤️ 5

Comments