عبد الرحمن الزواوي -  Abd El-Rahman Elzwawy
عبد الرحمن الزواوي - Abd El-Rahman Elzwawy
May 25, 2025 at 07:04 PM
الحاجة خديجة… لم تكن مجرّد أختٍ من روّاد المسجد، بل كانت لي أُمًّا بكل ما تحمله الكلمة من دفءٍ وقربٍ وحنان. ما رأيتُ أحدًا في حياتي قد زهد في الدنيا، وأعرض عنها بكليّته، وسار إلى الله بقلبٍ مملوء بالإخلاص، مثل هذه المرأة الصالحة، الساعية في أبواب الخير، المتفنّنة في البر، التي ما فتئت تُقدِّم من روحها للناس، كأنها لا تعيش لنفسها. وإنّ خبر وفاتها كان عليّ كالصاعقة، لا أُبالغ إن قلتُ إنني لم أُفجع في حياتي بأحد كما فُجعتُ بفقدها، لقد كانت الفاجعة الأعظم والأشدّ على قلبي، كأنها انتزعت شيئًا من روحي، فما هدأ لي بعدها بال. ما تركت دروس الفجر يومًا، ولا غابت عن مجلس من مجالس العلم في المسجد، وكانت تحرص على دروس الإنترنت، لا تكاد تُفوِّت درسًا، تحضر جميع الدروس بجوارحها وجوانحها، وكان اجتهادها في طلب العلم شيئًا يُروى، وإقبالها على حلقات القرآن والمجالس والخدمات كمن يسابق الزمن إلى الله. ما رأيتُ أحدًا يُفرّج الكربات، ويقضي الحوائج، ويجبر الخواطر كما كانت تفعل، لا تنتظر أن تُطلب، بل تبادر وتسبق وتصل من لا يصلها أحد. أشهد أنها ابتُليت بلاءً شديدًا في حياتها، فما زادها البلاء إلا رضا وتسليما وصبرًا جميلاً. كانت تتألّم في صمت، وتُحسن في خفاء، وتبذل في صمتٍ يشبه تسبيح الملائكة. رأيتها تخدم المرضى والمساكين رغم تعبها ومرضها، كأنها تحمل أوجاعها في قلبها وتكتمها، وتقدّم للناس ابتسامتها وسعيها وبذلها. ربّت ابنتيها تربيةً طيبةً مباركة بعد وفاة والديهما، وقررت أن تفني عمرها لأجلهما، فكانت نعم الأم، ونعم المربّية، ونعم القدوة. هي المرأة التي تفوح المجالس عبيرًا بذكرها، ولا يكاد أحد يختلف على سكونها، وسمتها، وهدوئها، وأخلاقها، وبرّها، وإنفاقها، وحرصها على القرآن والسنّة. أما عني، فقد قالوا لي إنها أحبّتني محبةً مارأوا نظيرًا لها من قبل، وكانت تخاطبني دومًا: "يا بني، يا قُرّة عيني". وكانت توصي إليَّ بأعمال الخير، وتتعاهدني بها، وتقضيها خفية عن أعين الناس. تشهد جدران المسجد أنها كانت من مؤسّسيه، وما أخبرت أحدًا، بل فعلت وأعرضت عن الذكر. وقد قلَّ أن يجود الزمان بمثلها... رحيلها أبكى رجالًا لم تُعرف عنهم دمعة، أبكاهم كما تبكي النساء عند الفقد الجلل! إن مثل الحاجة خديجة لا يُعوَّض، فالقلوب التي أحبتها لا تزال مذهولة من الرحيل، والمجالس التي عَرَفت سَمتها تُؤْنِسُ جدرانها بصوتها، كأنها لا تزال هنا... تُرتّل، وتدعو، وتبذل. وإنّي لأستشعر أن الجدران تئنُّ على رحيلها، وأن زوايا المسجد تبكيها بصمتٍ لا يُسمع، كأن الأرصفة حفظت خُطاها، وكأن الهواء ما زال يحمل بقايا نفسها الطاهر. حقًا، لا أدري ما أقول، وما أكتب... فالعَبرات تخنق الكلمات، والوجع يُثقِل اليد عن الكتابة. اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيرًا منها، وارفعها في عليين، واجعل قبرها روضة من رياض الجنة. رحمها الله رحمةً واسعة، وجمعنا بها في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر، وجعل سيرتها صدقة جارية، ونفعنا بما غرسته من نور.
😢 ❤️ ❤‍🩹 😭 🙏 🤍 🤲 75

Comments