🟤⚫🟤 *من الخنساء والهذلي، إلى آلاء وحمدي* لم يعد في ديوان الصبر والتأريخ متسعٌ، فقد تجشمت غزة والغزيون ملءَ صفحاته، فما أبقوا لمن بعدهم فخرا، ولا تركوا المفاخر لمن مضى ذكرا. ▫️كانت الخنساء مضرب المثل في ديوان العرب والمسلمين في احتساب الولد حين قدمت أربعة منهم في القادسية، فلم تنكسر لها قناة، ولم تجزع لها نفس، حتى إنها ألجمت لسان الشعر وهي من فحوله، فلا غرو أن شعر الرثاء يظهر بعض الجزع، فلم تصنع كما صنعت في رثاء أخيها صخر، بل مسحت على جرحها ببلسم الإيمان والاحتساب، وافتخرت بما قدمته، ودعت أن تجتمع بأولادها في الجنة. ▫️وأما أبو ذؤيب الهذلي فقد بلته الأيام بفقد خمسة من أبنائه في طاعون عمواس، فقال من الشعر ما طار مثلا حتى يومنا هذا: أَمِنَ المَنونِ وَريبِها تَتَوَجَّعُ ... وَالدَهرُ لَيسَ بِمُعتِبٍ مِن يَجزَعُ. أَودى بَنِيَّ وَأَعقَبوني غُصَّةً .. بَعدَ الرُقادِ وَعَبرَةً لا تُقلِعُ. سَبَقوا هَوَىَّ وَأَعنَقوا لِهَواهُمُ ... فَتُخُرِّموا وَلِكُلِّ جَنبٍ مَصرَعُ. فَغَبَرتُ بَعدَهُمُ بِعَيشٍ ناصِبٍ ... وَإَخالُ أَنّي لاحِقٌ مُستَتبَعُ. وَلَقَد حَرِصتُ بِأَن أُدافِعَ عَنهُمُ ... فَإِذا المَنِيِّةُ أَقبَلَت لا تُدفَعُ. وَلَقَد أَرى أَنَّ البُكاءَ سَفاهَةٌ ... وَلَسَوفَ يولَعُ بِالبُكا مَن يَفجَعُ. وَليَأتِيَنَّ عَلَيكَ يَومٌ مَرَّةً ... يُبكى عَلَيكَ مُقَنَّعاً لا تَسمَعُ. وَتَجَلُّدي لِلشامِتينَ أُريهِمُ ... أَنّي لَرَيبِ الدَهرِ لا أَتَضَعضَعُ. وَالنَفسُ راغِبِةٌ إِذا رَغَّبتَها ... فَإِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ. ▪️تلك أمة قد خلت، ولها من الذكر ما يُسمع، فقد ظللنا دهرا نفاخر بآثارهم، ونستحيل أمثالهم، ونستعجب أحوالهم، حتى كأنهم من جنس غير البشر، لهم قلوب لا من لحم ودم، بل من يقين وإيمان وتكوين لا يشبه تكويننا،فإذا بآلاء الغزية لا تقل عن الخنساء والهذلي في تكوينهما العجيب، ورباطة الجأش، وفولاذية اليقين، فجعلت للبلاء معنى جديدا، وللصبر مثلا عدم نظيره، ولليقين صورة أكثر حضورا وإحساسا للعالم الحديث المتحضر!!، فافتتح التأريخ لهم ديونا خاصا اسمه (ديوان غزة، ديوان الكرامة والعزة). فيه ذكر لألف آلاء وألف حمدي، وألف عائلة محي سجلها بالكامل، وانقطع ذكرها في الأرض، وبقي في السماء. ▫️لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وإن العين لتهمع، والقلب ليتقطع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب. ▫️ إن اللوعة بفقد الولد لهي من أصعب الأمور، وأقسى المشاعر إيلاما للروح، وأعظمها إتلافا للنفس، فكيف بمن فقد تسعة من صغاره في لحظة واحدة، تركهم في نُضرة وجمال، فأتوه أجسادا محترقة، وأشلاء ممزقة. لكما الله يا أختنا آلاء ويا أخانا حمدي. نكذب إن قلنا نستطيع ما تفعلوه، فلله اصطفاء واختيار في أوليائه، فلا تحملنا يا رب ما لا طاقة لنا به، واعفُ عنا واغفر لنا وارحمنا. والطف اللهم بأهل غزة فأنت وليهم وهم أولياؤك، نعم المولى أنت ونعم النصير.