
✍️ القاصّ إبراهيم حافظ
June 9, 2025 at 12:51 AM
*لحظة فارقة*
من أكبر الصدمات العنيفة التي تلقيتها في صباي: رحيل شقيقي (ناصر) بعد معاناة ثقيلة مع المرض طيلة حياته الطويلة التي لم تمتد لأكثر من ستة أشهر!
ولد مريضا ضعيفا في بدنه الصغير بعيب خلْقي نادر يجعله موضع شفقة وقلق عليه من الوالدين، عانيت مع أمي في تمريضه والسهر عليه؛ لأني بكرها الذي يساعدها في كل شؤون المنزل.
أحبته أمي كما لم تحب غيره من بنيها وبناتها رغم تعبها الشديد في رعايته والعناية به. كانت تقول عنه لفترة طويلة:
- كان أكثركم وسامة ووداعة، وربما لو عاش لكان أكثركم بِرًّا بي.
في ليلة ليلاء غريبة أيقظتني أمي. يضيء الغرفةَ مصباح خافت، إخوتي نيام إلى جواري، خالاتي يتوزّعن في أنحاء الغرفة يتهامسن، لا يظهر منهن غير وجوههن، يتلفّعن بسواد الحجاب. متى جئن؟ ما الذي جاء بهن في هذا الوقت المتأخر؟ ما الذي يفعلنه عندنا؟ من يهتم بأسئلتي يومئذ بحضرة هذه الرهبة المخيمة على الغرفة؟
قالت لي إحداهن:
- قم وودِّع ناصر، سيأخذونه بعد قليل.
لم تبين لي لماذا أودّعه؟ وأين يأخذونه ولماذا؟
قمت وخرجت، وإذا البيت مليء بأعمامي وأخوالي. ما الذي جاء بهم؟ وماذا يفعلون هم أيضا؟
رأيته راقدا على نعش خشبي، هادئا مطمئنا لا كما عهدناه باكيا منزعجا مضطرب الأنفاس، تلمع قطرات لؤلؤية على جسده الساكن الذي ازداد بياضا وصفاءَ لون. لماذا لا يتحرك شيء منه قط؟ جامد كالصخر بارد كالثلج حين لمسته.
تعاون خالي وعمي في لفّه بقماش أبيض، غطّوه كاملا، حجبوا وجهه داخل القماش، ربطوا ربطتين فوق رأسه وتحت قدميه. لماذا يغطّونه هكذا؟ كيف سيتنفّس الآن؟
يحملونه ويغادرون به البيت خاشعين واجمين، أعود إلى الغرفة الخافتة، تضجّ أمي وخالاتي بالبكاء، يعلو نحيبهن، يستيقظ إخوتي مفزوعين مستغربين، هل أدركوا أنهم استيقظوا لتوهم أو ظنوا أنهم يستغرقون في كابوس مزعج مخيف؟
بعد خمس وثلاثين سنة من رحيله مازلت أنا وأمي ننتظر عودته ذات لحظة فارقة.

👍
1