
رابطة علماء المسلمين
May 28, 2025 at 07:46 PM
حرب غزة يوميات ومشاهدات [88]
(ثلاثية الصُّمود)
لا ينفكُّ المؤمن في سيره إلى الله تعالى عن المحن والابتلاءات. ومن الأسباب التي تقويه وتثبته وتُسلِّيه في قلب هذه المحن: ما يسمعه من أحوال إخوانه الذين سبقوه على هذه السبيل.
ومن تدبر القرآن وجد أن الله تعالى يكثر من ذكر أخبار الأنبياء والمرسلين، ويقص على نبيه صلى الله عليه وسلم ما جرى لهم مع أقوامهم= تثبيتا لقلبه، وشدًّا لأزره.
قال سبحانه: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].
وقال جل وعلا: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35].
وكان الإمام أحمد يقول في محنته العظيمة: لست أبالي بالحبس (ما هو ومنزلي إلا واحد)، ولا قتلا بالسيف، إنما أخاف فتنة السوط. فسمعه بعض أهل الحبس فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سُرِّي عنه.
وقال: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رَحْبة طَوْق [هي رحبة مالك بن طوق، تقع بين الرَّقَّة وبغداد]، قال: يا أحمد، إن يَقْتُلْك الحق مُتَّ شهيدا، وإن عشتَ عشتَ حميدا، فقوَّى قلبي.
فإن كان هذا قد حصل لإمام أهل السنة، وهو من هو إيمانا وقوة وثباتا، فَلَأن يحصل لمن هو دونه من بابِ أولى.
وبينما أنا أقرأ في كتاب الشيخ فايز الكندري "البلاء الشديد والميلاد الجديد" الذي كتبت مقالة قريبة عنه في سلسلة (مقروءات الحرب)= وقفت على كلام نافع غايةً عنونه بالعنوان أعلاه، فرأيت نقله هنا مع تصرف وزيادة يسيرة، لعله ينتفع به مَن لم يقف على الكتاب، والله حسبي ومقصودي واعتمادي. وهذا أوان الشروع فيه:
... لقد انهمرت القذائف فوق رأسي، وتفجرت الأرض حِمما من تحتي، وتطايرت الجثث حولي، والتوى عليَّ الجوع، وأحدق بي الخوف، وبقيت نحو عشر سنوات في زنزانة انفرادية (لا يتعدى طولها مترين، وعرضها أقل من ذلك) يسومُني الحاقدون سوء العذاب، لكني لا زلت حيا، لا زلت أشهد موقنا من قلبي ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، لا زال قلبي يهفو لإشراقة الشمس، وعيني ترنو لاهتزازة الغصن الرطيب، وأذني تُصغي لشَدْو البلابل، وروحي تشتاق لمجد أمة لا زالت في التيه.
لم يكن شيء من ذلك بقوتي على الإطلاق. لست رجلا حديديا لا يبالي بالعذاب، ولا خارقا لا يكترث بالأهوال، لقد افتَلَتت من محبِس صدري أنَّاتُ وجعٍ تحت السياط، وآهاتُ ألمٍ في القيود. لقد حزنت وبكيت، وفتَرت ووهَنْت، لكنهم لم يكسروني، ليس لأني لا أنكسر؛ بل لأن ما آمنت به غير قابل للكسر.
باستطاعة الطاغية أن يقتلك، أن يتلذذ بأنينك، أن يملك جسدك.. لكنه لن يملك قلبك.
باستطاعته أن يسلبك روحك، أو يُفقدك عقلك.. لكنه لن يسلبك إيمانك.
قد تسقط بين يديه مقتولا، أو تَهْذي مجنونا.
وماذا يصنع الطاغية بآلة محطمة غير صالحة للاستخدام؟! يكفيك نصرا أنك لم تكن طوعَ يديه.
أستطيع القول بكل ثقة من خلال التجربة الطويلة في أشد الظروف قسوة عند أقوى استخبارات وقوة عسكرية في العالم: إن أعظم استراتيجية يواجه بها الإنسان ابتلاءات الدنيا تكمن في (ثلاثية الصمود): تصحيح التصور، الاتصال بالله، الجهد البدني.
-أما تصحيح التصور للأحداث: فهو الذي يحدد طبيعة رؤيتنا لها وتعاملنا معها.
السراج الذي وضعه القرآن في أيدينا لتبديد ظلمة الابتلاء، والتغلب على مصاعب الحياة بنجاح= يكمن في فهم حقيقة الابتلاء واعتبار زمنه.
إن تغيير التصور لحقيقة البلاء هو أهم عنصر لتجاوزه بنجاح.
الابتلاء يعني الاختبار وليس الاحتقار، إنه تطهير لا تدمير، إنه اليقين بأنه يصطفيك حين يبتليك.
حين تصاب مع أسرتك بحادث سيارة تصاب فيه بالشلل، وتفارق فيه زوجتك وابنتك الحياة فإنك ستنهار؛ لأنك رأيت الشلل لا الجائزةَ المترتبة عليه؛ لأنك رأيت في الموت الفراق ولم تر فيه الانتقال إلى دار التلاق.
ماذا لو أخبرك الملك أنك إن صبرت على ابتلائك العابر الزائل فسيهبك قصرا مَشيدا في جزيرة خلابة تنتظرك فيها زوجتك وأولادك بفارغ الصبر، تَنْعَمون فيها خالدين بأنواع الملذات والأفراح؟! إنه التصور.. يشتعل قلبك غضبا وجسدك ألما حين يضربك عدوك، ولو ضربك مدربُك الرياضي لتقوية جسدك لتقبلت الأمر بصدر رحب. هو ذات الضرب لكن التصور اختلف فاختلفت معه مشاعرك وسلوكك.
إن تغيير التصور للمشكلة يحيلها من مأساة مؤلمة إلى تجربة مثيرة.
وحين أتأمل مصائب الدنيا فإني أجدها محبوسة في قالب زمني يتحول بعد لحظة من واقع إلى ماض لا حقيقة له، لكننا نرتكب جريمة في حق أنفسنا حين نصطحب ذكريات الآلام إلى الحظة الآنية؛ لتتحول الذكريات إلى حقيقة من جديد.
-وأما الاتصال بالله: فهو المدد الذي يُفيض على القلب ليذكِّره بشرف الجزاء وقرب الوصول.
إن تصحيح التصور وحده لا يكفي لتجاوز قنطرة البلاء؛ لأن ميدانه الفكر، والإنسان لا يصل بالفكر وحده، بل لابد من زاد إيماني يصله بالسماء، من صلاة وذكر ودعاء وقراءة قرآن وخشوع وتبتل وضراعة وإنابة...، وهو أشد غَناءً للروح من الطعام والشراب للجسد.
إن تأثير هذا الاتصال الروحي الوجداني في إيقاظ القوى الكامنة في النفس أعظم من تأثير الغريزة البشرية والطبيعة البيولوجية في إفراز حمض الأدرينالين ليمنح الجسد قوة رهيبة في حال الخوف والغضب.
-وأما الجهد البدني: فالإنسان يتكون من جسد وروح، وحين يكون الجسد ساكنا خاملا فإن حِمل البلاء ينصب على الروح وحدها، فإنْ نشِط الجسد تفرق البلاء عليهما فخفَّت وطأته على الروح. وهذا جربته بنفسي، لم أدَعِ التمارين الرياضية طوال الأربعة عشر عاما التي قضيتها في غوانتانامو مهما اشتدت الظروف وعظم البلاء.
فالتمارين الرياضية لا تخفف الجسد من أوزانه الزائدة فحسب، بل تخفف الروح من أثقالها المرهِقة.
لقد كنت أتصبب عرقا في الزنزانة الضيقة التي لا تتعدى مترا ونصف المتر في مترين طولا وعرضا، وكنت أقول لمن حولي مازحا: إجهاد الجسد بتمارين الضغط يخفف الضغط عن الروح.
سألني أحدهم متعجبا: كيف تتحمل التمارين في مثل هذه الظروف الرهيبة؟!
أجبته: بل أنا أعجب كيف تتحمل كل هذا البلاء دون تمارين رياضية؟!
كنت أرى بعض المعتقلين الذين أقامت آثار السجن على وجوهم مشاريع جسور وأنفاق، بينما كنت أرى المواقف تجسد أرواحهم في صورة شاب مفتول العضلات، ولم يكن ذلك إلا لأنهم أدركوا السر الذي انطوت عليه (ثلاثية الصمود).
يظهر الترابط الوثيق بين القلب والجسد في دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ...) [أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه].
فالهم: هو انشغال القلب بمكروه متوقَّع في المستقبل، والحزن: هو تألم القلب بمكروه وقع. وكلاهما يتعلق بالقلب.
والعجز: هو عدم القدرة على فعل الشيء، والكسل: هو التثاقل عن الفعل مع القدرة عليه.
كما تتجلى ثلاثية الصمود في قوله تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146].
فالوَهْن: هو خَوَر القلب، والضعف: هو خور الجسد، والاستكانه: هي الخضوع للعدو، وهي ناشئة عن التصور الخاطئ وظن السَّوء بأن الله لن ينصر دينه وأولياءه.
هذا التصور لحقيقة الابتلاء وقِصَر زمانه يُعدُّ كنزا من كنوز الدنيا، ولن يَفتح خزائنه إلا للمؤمن بالله واليوم الآخر. وكلما زاد الإيمان زاد هذا التصور رسوخا، وكلما غفَلتُ عن هذا المعنى تضعضعتْ نفسي للابتلاء، وترنحتُ تحت وطأته، فإن ذكرتُه وعشته نهضت روحي من جديد. انتهى بتصرف وزيادة يسيرة (ص390-392).
✍🏻 بقلم فضيلة الشيخ د. بسام بن خليل الصفدي
الثلاثاء 29 ذو القعدة 1446